غالب هلسا سرود الاستعادة وذاكرة البطل الثقافي

■ استعادة غالب هلسا تستدعي معها إثارة أسئلة الأفكار، وسرديات البطولة المخذولة، إذ لا ينفك بطله السردي المُقنَّع بقناع «المثقف العربي» أن يتورط فيها، أو أن يبحث عن مفاتيح لها، أو ربما يظل يعيش انسداداتها وسخريتها أو رعبها الوجودي والواقعي، فما حدث في الوقائع العربية لا ينفصل عما يحدث الآن، وهو جوهر فكرة الاستعادة..
ما كتبه غالب أو ما عاشه، أو ما فكّر فيه ليس بعيدا عن السياسة والأدلجة وأفكارهما، ولا عن التاريخ، أو الذاكرة، فهو يدرك جيدا أن الكتابة بعيدا عن النضال الاجتماعي والسياسي ستغدو محض «تخاريف»، كما أن النضال بدون وعي أو بدون خطاب أو رؤية سيكون نوعا من العبث بالمصائر، وهو ما عاشه فعلا، وما كتب فيه كثيرا عن بيروت أو عن بغداد، أو عن القاهرة، أو عن فلسطين، فهذه الأماكن/ المدن المسحورة والمسكونة بأشباح المطرودين والحالمين تُمثّل له العتبات النصية، التي ترهص بالحكاية وبالوجع، مثلما تستشرف جوهر السؤال الأنطولوجي عن سرائر ما هو خفي في المكان العربي، الذي يظل مكانا مهددا، رغم سحره بالاغتراب والحرب، وبالحكومات، والعزلة التي تعني النفي والخواء واللاجدوى، وبرياح الخماسين تلك التي قد تشبه عصف الاختناق السياسي.
لعبة القلق في روايات غالب هلسا هي التوصيف الأقرب لسردنة اغترابه الدائم، عن المكان، وعن الهوية، وعن الذات، وبوصف هذا الاغتراب أيضا مجالا فكريا وفلسفيا لمقاربة نظرته للعالم ولعزلته عن «الأمكنة الحميمة» فهو لا يرى العالم إلا بوصفه فضاء للصراع، ومجالا لمعرفة القوة التي يمكن أن يملكها الإنسان الرائي عبر الأفكار، ومجالا سجاليا لمعرفة الآخر، بوصفه الأيديولوجي، أو الكولونيالي، أو الشرير أو المحتل أو المستبد، وهي توصيفات جعلته أكثر تساؤلا وحذرا وخوفا، وأكثر استعدادا للمواجهة وللطرد في آنٍ معا، إذ عاش رهاب العزل والسخرية، والبحث في المدن المحكومة بـ«الهؤلاء» على حدّ قول مجيد طوبيا.
رهاب المدن المُستبَدة، هو الوجه الآخر لرعبه الشخصي، ولأسئلة وعيه «الشقي» ولرغبته في الكتابة عنها، ليس بوصفها مدنا تاريخية أو سياسية، أو أنثروبولوجية، بل بوصفها مدنا تضيق فيها التفاصيل، وتتسع فيها الرمزية الفائقة للرصيف والمقهى والغرفة والملجأ والحانة، وهو ما عاشه فعلا من نقائض في يوميات مدن كبرى مثل بغداد، والقاهرة، وعند متاريس الحرب في بيروت التي عاشت رعب الاجتياح الإسرائيلي بتفاصيله الدامية والطاردة، مثلما عاش معها وفيها الحلم والهزيمة والرحيل. سرديات المدن هي سرديات البحث عن ما تحمله الرموز من تفاصيل ضدية، ومن علائق حميمة انغمرت فيها شخصياته، وهي تواجه فوبيا السلطة، ووحشة الاغتراب، واستلابات الرعب الدوستوبي في المدينة العربية، تلك التي تطارد المثقف الملعون، وتوهمه بالخوف اليساري، والتوحش الأيديولوجي.

المكان اليومي في سرديات هلسا هو المكان السياسي والمكان النفسي ذاته بتفاصيله وحميميته وشواظه، والزمان هو زمن الصراعات والتحولات والهزائم والشعارات والاجتياحات ذاته، كما أنّ الاحداث التي اصطنع سردياتها في المكان/ المدينة لم تكن بعيدة عن ذاكرة الثوري والحزبي والمثقف

سرديات صالحة للقسوة
لم يجد غالب هلسا أفقا لسردياته أكثر من الأفكار بوصفها مقاربات لـ«شيفرات المقموع والمسكوت عنه» في المكان والزمان العربيين، ولطبائع ما تحمله شخصياته المأزومة، تلك التي تعيش هوسا عميقا ومكبوتا في التمرد والثورة والجنس، تُفكّر خارج المألوف دائما، وتجاهر- أحيانا- بتلك الأفكار وكأنها تتشهى الاعتراف برعبها، وخوفها وشبقها، وبنوع من التقنّع السردي الذي تستدعيه لعبة الفانتازيا الواقعية..
المكان اليومي في سرديات هلسا هو المكان السياسي والمكان النفسي ذاته بتفاصيله وحميميته وشواظه، والزمان هو زمن الصراعات والتحولات والهزائم والشعارات والاجتياحات ذاته، كما أنّ الاحداث التي اصطنع سردياتها في المكان/ المدينة لم تكن بعيدة عن ذاكرة الثوري والحزبي والمثقف، ولا عن حساسية المواطن البسيط الذي تسحقه الأوهام والاستبدادات والهزائم القومية، فهو يسردن أفكاره بشيء من السخرية، يرقب شخصياته، عبر ما تحمله من هواجس، أو ما تعيشه من تحولات، حتى تبدو «مخيلته الماركسية» وكأنها أكثر انشغالا بالوظيفة الصراعية للشخصية، ولطبيعة ما يعكسه الصراع من سمات على هوية المدينة، عبر اللغة، وعبر اليوميات، أو عبر حكايات تلك الشخصيات، أو عبر وجوه المدن المتحولة، التي يجد في تورياتها وفي تسريبها السردي إيهاما بما تحمله من أفكار أو ما تستظهره من زيف، أو بما تعيشه من صراعات وجودية دامية وفاضحة، فكريا وأيديولوجيا، حتى يبدو الأمر وكأن بطله الماركسي هو ذاته المقموع، وصاحب القناع الذي يحرك الأحداث، الذي يمارس وظيفته سردية عبر وظيفته الفكرية، ومن خلال مستويات سردية متعددة، حيث تتداخل الشخصية السردية مع شخصيات واقعية، والأحداث الواقعية مع أحداث متخيلة، وعبر لعبة استدعاءات مثيرة وماكرة، أجاد تسريدها هلسا عبر المثيولوجيا، وعبر حلم اليقظة، أو عبر الدلالة الرمزية، وهي اشتغالات استكنه من خلالها أقنعة الاستبداد، والتحوّل الأنثروبولوجي والسياسي والاجتماعي في الواقع العربي، عبر بنية المدن، بوصفها وحدة مكانية وعمرانية، أو مكانا متعاليا للتذويب الطبقي والاجتماعي، وللتطهير السياسي واللغوي.
في رواية «ثلاثة وجوه لبغداد» يلامس الروائي وجه التحولات الحادثة في مدينة بغداد، عبر قراءة العمران الاجتماعي، وفكرة الاغتراب، وعبر ما يحتشد فيها من الحكي والإيهامي والتخييل السردي العنيف.. يحمل الوجه الأول «من خلال عيون مصرية» مستوى سرديا يقوم على مراقبة التسريب النسقي للهيمنة اللغوية، عبر تسرب شيفرات اللهجة المصرية للشارع البغدادي، وما تركته من أثر رمزي على اليومي، والتواصلي، وعلى نمط الاجتماع العراقي، وتواصلا مع الوجه الثاني «في الحفلة أو كوميديا الأسماء» حيث التوغل في الأنثروبولوجيا العراقية، زمن صعود البعث، وطبيعة ما اقترن بهذا الصعود من تحولات اجتماعية وطبقية، وصعود «البورجوازية الريفية» إلى عتبة السلطة والثراء.
عبر هذا الوجه تتبدى شيفرة السارد الثقافي وهو يرصد تحولات المكان، عبر تحولات الحياة والشخصية، وعبر ما تكشفه من انهيارات عميقة، ومن تعرية لما تتقنع به السلطة، وخطابها السياسي المُقنّع بالمظاهر الغرائبية، تلك التي تبدو وكأنها كوميديا سوداء للأسماء ولليوميات والأقنعة.
الوجه الثالث «زحف الغابة» ينحاز فيه الروائي إلى ما يشبه الاستعارة السردية، لتعرية العنف، الذي أدى إلى انهيار الجبهة الوطنية في نهاية السبعينيات، ووقوع الشيوعيين في فخ السلطة المرعب، وهو ما يعني انهيار أنموذجه الثقافي، وتضخم اغترابه الوجودي، فضلا عن انهيار الفكرة الحميمة للمدينة التي كان يعشقها..
سردية الاغتراب في رواية غالب هلسا هي سردية اغتراب المثقف ذاته، إزاء خواء الواقع والهوية واللغة، وإزاء لعبة السياسة الطاغية، التي اجترحت لها في نصوصه عتبات وأسماء وأقنعة، جعلت لعبته الروائية أكثر اقترابا من تقانة «التسريب النسقي» إذ يكتب عبرها عن أحلام يقظته، أو عن أوهامه، أو يذهب بها إلى «اللبيدو» تشفيرا لأزمته الشخصية من جانب، أي أزمة اغترابه الوجودي والجنسي، وتهويما بمحنة المثقف اليساري الذي يعيش قلقه من جانب آخر، إذ تشتبك عنده رمزية الجنسي مع رمزية السياسي، وفضاء الإيهام السردي مع فضاء الواقع، ولتظل عبر هذه الثنائية صورة المثقف الليبرالي واليساري تهجس بفكرة الطرد الأنطولوجي، مثلما تظل حكاياته مفتوحة للوعد السردي، الوعد الذي تستلبه المدينة العربية، في زخم سرودها المضادة وفي هوس يومياتها الكئيبة.

٭ كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية