عمان – «القدس العربي»: مجدداً، تقرر «كلا» الأردنية الملكية الاستمرار والبقاء والصمود في وجه كل ما يطرح من سيناريوهات بعنوان صفقة القرن، وبصيغة توحي بأن ما يسميه المراقبون بواقعية الخطاب الأردني السياسية لا تعني حتى اللحظة على الأقل الاتجاه عكس تيار «كلّا الثلاثية».
في ترتيبات المطبخ الأردني يرد مركز القرار للمرة الثالثة على فوضى التسريبات والتكهنات بعبارة ملكية مرسومة ومحددة تتمسك بما يمكن وصفه بـ «لاءات» المملكة. وهي لاءات يبلغها ضمنياً وزير الخارجية أيمن الصفدي لنظيره التركي مولود أوغلو. ويتحدث الصفدي عن عدم وجود لغتين لبلاده إزاء صفقة سلام محتملة لم تعلن تفاصيلها بعد.
ملك الأردن كان قد كرر كلا الثلاثية طوال الوقت، وهي تلك التي تخص السيناريوهات البديلة بعيداً عن دولة فلسطينية مستقلة، كما تخص أي مساس بحق العودة، وفي الوقت نفسه تخص تغيير الأمر الواقع في القدس.
وسط زحمة التوقعات في أن يعلن الرئيس دونالد ترامب صفقة القرن التي تخصه في غضون الساعات القليلة المقبلة، لا تجد عمان رسمياً ما يدفعها للشعور بالفزع وتتصور بأنها لا تزال حتى اللحظة تستطيع تكرار الـ «لاءات الثلاث» في وجه أي ترتيب يحاول -برأي العاهل الملك عبد الله الثاني العلني- تجاوز عملية سياسية تصنع سلاماً تتقبله الأجيال في المستقبل.
الشارع متوجس وقلق والسلطات تستعد لكل السيناريوهات
تحليل الموقف الأردني لا يحتاج إلى اجتهاد، فكلا الثلاثية هي العنوان، ومن المرجح أن عمان التي لا يتم التشاور معها أمريكياً أصلاً تقدر بأنها تستطيع أو لا تزال في مساحة مناورة تمكنها من إعلان موقفها، وعلى أساس أن استقرار المنطقة برمتها منوط بعدالة تنهي معاناة الشعب الفلسطيني، كما لمح الوزير الصفدي في اجتماع عقد مؤخراً في رئاسة الوزراء.
فوق ذلك، يعتقد بأن الحاضنة الأوروبية توفر الغطاء لحراك أردني مبكر يعترض على ترتيبات صفقة ترامب، وعلى أساس النصيحة القديمة نفسها لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري، بعنوان الثبات والمماطلة وكسب الوقت لأكبر مساحة ممكنة. بمعنى آخر، يراهن الأردنيون على تفاضل عددي وكمي ونوعي في منطقة لها علاقة بالقبول الدولي والإقليمي لصفقة قرن عبثية من حيث الشكل والمضمون بعدما تسربت بعض تفصيلاتها.
يبقي الأردن هنا، ومن باب الاحتياط، عيونه في حالة متابعة لمستويات التطبيع، خصوصاً الخليجية مع اليمين الإسرائيلي. ويلجأ الأردن في سياق التموقع التكتيكي للحضن الأوروبي قدر الإمكان، على أساس أن أوروبا هي الأقرب لقضايا المنطقة والأفهم فيها. وأيضاً على أساس قناعة مركز القرار الأردني بأن إدارة ترامب تستطيع إعلان خطة أو صفقة، وتستطيع السعي لفرضها، حتى دون شركاء، على الشعبين الأردني والفلسطيني.
ولكنها على كل حال خطة لن تنطوي على حلول تاريخية للصراع، ومن الصعب على المجتمع الدولي هضمها، خصوصاً إذا ما ترافقت مع نمط انتقائي تحت ستار السلام الاقتصادي ومع طموحات اليمين الإسرائيلي التي تحاول بانتهازية ملموسة حسم كثير من الملفات على أرض الواقع، مثل حدود الأغوار وشمال البحر الميت، والاحتفاظ بالمستوطنات فيما تبقى من الضفة الغربية.
يراهن الأردن على إمكانية الاحتفاظ بموقفه الراهن، لكنه لم يسمع رسمياً بعد بقية التفاصيل، وعليه، ثمة هوامش للمناورة يساندها استمرار وبقاء العلاقات مع إسرائيل في بعض تعبيراتها الاستراتيجية العميقة بالرغم من كل الضجيج وتوصيف رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز لتلك العلاقات بأنها سيئة جداً وتذهب باتجاه السوء أكثر.
هنا يلاحظ مثلاً بأن اتفاقية الغاز مع إسرائيل صمدت، وبأن الاتصالات في بعض المستويات الأمنية استمرت، وبأن ترتيبات الجسور والمعابر بدأت تتسع، وبأن القيادة تتحدث عن نصف الكأس المملوء، وتلك كلها مؤشرات على واقعية سياسية محمودة ومطلوبة ومنطقية، برأي المحلل الاستراتيجي الدكتور عامر السبايلة.
ويعني ذلك أن المراوحة الأردنية ما بين متطلبات الواقعية السياسية والجغرافية وبين احتياجات عدم إضفاء الشرعية على خطة ترامب الوشيكة بالتوازي مع البقاء، في أقرب مسافة ممكنة لأوروبا وخياراتها، هي عناصر ثلاثة تشكل اليوم استراتيجية التعاطي الأردني مع أزمة صفقة ترامب المحتملة.
طبعاً هذه المراوحة، على شكل تنقل بدقة بين الألغام، لا تدفع الشارع الأردني للاسترخاء؛ فمستوى الترقب كبير، والهواجس بالجملة، والبيانات بدأت تصدر من القوى الاجتماعية والسياسية باتجاه التحذير من الخيار الأردني في الضفة الغربية مرة، وادعاء الخوف على مستقبل الهوية الوطنية مرات.
مراوحة السلطة تكتيكية وفعالة في مستوى ميزان القوى، لكنها قد لا تكون مقبولة للشارع أو للأطراف المرتابة فيه، والتي بدأت تعبر عن قلقها وهواجسها بطرق متعددة تبدو انفعالية أحياناً وعلى شكل الدعوة لتشكيل مجالس إنقاذ أو تشكيك بقدرات المؤسسات أو على شكل استثمار واستغلال لأزمة الخيارات الاستراتيجية.