بريطانيا خارج أوروبا: ماذا تبقى من «عبء الرجل الأبيض»؟

حجم الخط
6

رديارد كبلنغ (1865 ـ 1936)، الشاعر والروائي البريطاني وحامل نوبل للآداب، استحق صفة الناطق الأدبي باسم الإمبراطورية البريطانية ومشروعها الاستعماري (أو «نبيّ الإمبراطورية» حسب جورج أرويل)؛ ورسخ على هذه الصورة في الذائقة الشعبوية الإنكليزية، عبر سلسلة تنميطات صنعتها قصائده ورواياته. لعلّ الأشهر بين هذه قصيدته التي نُشرت سنة 1899، وتطالب المستعمِر بأن يحمل «عبء الرجل الأبيض»؛ أو مقولته الشهيرة، أنّ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا؛ أو روايته «كيم»، التي تروي تمزّق فتى ولد في الهند لأصول عرقية إرلندية وبريطانية؛ أو قصيدته «إذا»، الأشهر ربما، والأوسع شعبية في بريطانيا على مدى العقود التي أعقبت كتابتها.
ليس غريباً أنّ هذا النموذج تحديداً من شخصية كبلنغ هو الذي يعود اليوم إلى اجتياح الذائقة الشعبوية البريطانية بمعدّلات غير مسبوقة، ولأسباب متشعبة عديدة قاسمها المشترك الأعظم، مع ذلك، هو الـ»بريكست»: ليس بمعنى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحيازة استقلالها التجاري عن السوق الأوروبية المشتركة، وامتلاكها فرصة العودة إلى تقارب أنغلو ــ سكسوني عريق مع الولايات المتحدة، فحسب؛ بل كذلك، وعلى صعيد حميّة سيكولوجية عارمة أقرب إلى الاهتياج الجَمْعي، قوامها استيهامات العودة إلى ما مضى، وانقرض وانقضى، من ماضٍ استعمار بريطاني. وهكذا، لم يكن عجيباً، رغم فظاعة الرسائل التي انطوت عليها الواقعة، أن يجري اغتيال جو كوكس، النائبة عن حزب العمال البريطاني، قبل أسبوع واحد من التصويت على خروج أو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؛ وأن يُسأل قاتلها عن اسمه فيقول: «اسمي هو الموت للخونة والحرّية لبريطانيا».
والحال أنّ تصويت بريطانيا، إياها، على البقاء ضمن مجموعة السوق الأوروبية، في سنة 1975، بنسبة موافقة بلغت 67,23٪، كان بمثابة إقرار (جَمْعي، بدوره) أنّ نجوم الإمبراطورية قد أفلت؛ وأنّ المحاق التدريجي الذي اصاب المشروع الاستعماري البريطاني، مثل وليده دول الكومنولث، يتطلب الالتحاق بالقوّة الأوروبية الصاعدة، من باب الضرورة وليس الإيمان، وعلى غرار مُكرَه مضطرّ لا بطل. وفي كتاب دانييل دورلمان وسالي توملنسن «احكمي يا بريطانيا: بريكست ونهاية الإمبراطورية»، تذكير مفصّل بجملة الاعتبارات التي تجعل الرابطة وثيقة تماماً بين انحسار الإمبراطورية واستيهامات البحث عن هوية بديلة تستلهم الماضي التليد أو توحي بإمكان استرجاع بعضه! ولا يزيد في إشعال نيران هذا العصاب المريض إلا صعود شعبويات كبرى على نطاق القارّة العجوز أوروبا ذاتها، متمثلة في تيارات اليمين المتشدد الفرنسي والإيطالي والهنغاري؛ أو على صعيد الشقيقة أمريكا، في شخص دونالد ترامب وعنصرية التفوّق العرقي الأبيض.
بريطانيا خرجت الآن رسمياً، وصادق البرلمان الأوروبي على معاهدة الخروج بنسبة ساحقة بلغت 621 صوتاً مقابل 49 (والمرء يتساءل حقاً، ما الدافع وراء هؤلاء الرافضين!)؛ ولم يكن الهولندي جاي فيرهوفشتات، منسّق خروج بريطانيا، يتقصد الإطراء العاطفي وحده حين ودّع زملاءه النوّاب البريطانيين بالقول: «محزن أن نرى مغادرة دولة حرّرتنا مرّتين، وقدّمت الدماء لتحرير أوروبا». مظاهر درامية أخرى تمثلت في مسارعة عدد من النوّاب إلى أداء الأغنية السكوتلندية القديمة حول الوداع Aude Lang Syne، مقابل نوّاب آخرين اختاروا رفع لافتات تقول: «ليس الوداع، بل إلى اللقاء»؛ وكأنّ هؤلاء وأولئك يتشككون في أنّ ثلاث سنوات ونصف من الشدّ والجذب البريطاني/ الأوروبي حول ملحمة الخروج أو البقاء لم تنته تماماً، والقادم وشيك.

الـ«بريكست» هو أيضاً حميّة سيكولوجية عارمة أقرب إلى الاهتياج الجَمْعي، قوامها استيهامات العودة إلى ما مضى، وانقرض وانقضى، من ماضٍ استعمار بريطاني

الأسابيع والأشهر المقبلة، خلال الفترة الانتقالية التي ستمتد على 11 شهراً وبعدها، سوف توفّر معظم ما يحتاجه المرء من إجابات على صواب، أو خطل، الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، بصفة عامة؛ وكذلك، بصفة محددة لعلها المحكّ الأبرز، نجاح أو فشل لندن في التوصل إلى اتفاقيات تجارية مع ذاتها، وفي ما بين بلدانها أولاً (لا يُنسى أنّ مفهوم «بريطانيا» يضمّ أربعة بلدان، ثلاثة منها تشكل بريطانيا العظمى، والرابع اسمه إرلندا الشمالية)؛ ثمّ مع الشقيقة العتيقة، الولايات المتحدة (سواء فاز ترامب بولاية رئاسية ثانية، أو وصل إلى البيت الأبيض رئيس ديمقراطي لا يتفق تماماً مع سلفه بصدد مستقبل العلاقة التجارية مع بريطانيا). وفي المقابل، ثمة ما يدهش في أنّ الدول الـ27 المتبقية في إطار الاتحاد الأوروبي أعربت عن وحدة متراصة نادرة خلال التفوض مع لندن حول معاهدة الخروج، كما أنّ آلام بريطانيا الداخلية، في مصارعة البقاء أو الخروج، لعبت دوراً لا يقل إدهاشاً في «ردع» تيارات خروج أخرى؛ بدت في طور ما وكأنها غارت من بريطانيا وتنوي إطلاق «فريكست» في فرنسا، أو «نيكست» في هولندا أو «إيطالكست» في إيطاليا، كما يذكّرنا ستيفن إرلانغر في «نيويورك تايمز».
كأنّ «عبء الرجل الأبيض» انتقل من أكتاف أحفاد كبلنغ والإمبراطورية البريطانية الاستعمارية، إلى أكتاف شركائهم السابقين، في الاتحاد الأوروبي أو في حربين عالميتين، أو في مشاريع استعمارية مشتركة؛ وبات العبء يشمل مشكلات الدول الـ27 الأوروبية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى ما تبقى لها من أعباء كونية ليست بالضرورة استعمارية كلاسيكية أو جديدة بقدر ما هي حصيلة العولمة وإرث الراسمالية. وبهذا المعنى فإنّ اتفاقية لشبونة لعام 2007 تظلّ الوحيدة في الميدان، بعد أن وضعت على الرفّ جميع الاتفاقيات السابقة التي أتاحت ولادة فكرة الاتحاد الأوروبي، ابتداءً من روما 1957 وليس انتهاء عند ماستريخت 1992.
هي كذلك، وفي مستوى أخطر، الاتفاقية التي تلغي مبدأ استفتاء الشعوب الأوروبية حول شؤون شتى، اجتماعية واقتصادية وسياسية مصيرية، وذلك عن طريق إلغاء الدستور الموحّد الذي كان يخضع للإقرار الشعبي المباشر، وليس المصادقة البسيطة في البرلمانات أو الحكومات. وإذْ تغادر بريطانيا اليوم، فإنها بالأمس القريب كانت طرفاً فاعلاً في تفخيخ الكثير من مبادئ الدستور الموحد، لصالح سياسات نيو ــ ليبرالية مناهضة عموماً لغالبية المكاسب الاجتماعية الأساسية. بعض تلك السياسات شكّلت ردّة صريحة، فاضحة وجارحة، عن مكاسب كبرى وحقوق اجتماعية أنجزتها الشعوب الأوروبية بدرجات مختلفة وعبر نضالات شرسة كان بعضها دامياً مأساوياً. وفي فرنسا، مثلاً، بدت تلك الردّة عنيفة وفاضحة، تمسّ «ثقافة» عريقة تتكامل فيها مختلف أنماط التعاضد الاجتماعي، وقد راكمها الشارع الفرنسي وقواه السياسية وهيئاته النقابية طوال قرون. أمّا في اليونان، في مثال ثان، فقد كان للدرس الرأسمالي اليد العليا التي طغت على كلّ ما عداها من استيهامات أوروبا موحدة، منفتحة الحدود، حرّة التجارة.
وما تبقى من «عبء الرجل الأبيض» في بريطانيا، بلد الأقوام المهاجرة وعلى رأسها العائلة الملكية ذاتها، فإنّ الـ»بريكست» هو أيضاً سياسات جديدة تجاه التضييق على الهجرة واللجوء؛ في تذكرة بليغة بأنّ سلاح البحرية البريطاني أرسل واحدة من أقوى مدمراته إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، لمساعدة أثينا في ضبط أفواج اللاجئين السوريين؛ وذلك في ذروة السجال اابريطاني الداخلي حول مغادرة القارّة العجوز أوروبا! ولعلّ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وهو يحزم آخر حقائب الخروج من بروكسيل، رانياً ببصره إلى واشنطن، يحفظ جيداً تعليق وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت، حول الاتحاد الأوروبي: أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر «خطة مارشال»، وحفظت أمنها طيلة الحرب الباردة من خلال الحلف الأطلسي، وليس مسموحاً لأوروبا الغربية أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها.
هنا، كذلك، عبء من نوع آخر؛ للرجال البيض أجمعين!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هيثم:

    مقالات الأستاذ صبحي حديدي مفيدة معرفة وثقافة وتحليلا. أحرص على قراءتها والتمعن في معانيها ودقائقها. تحياتي وشكري وتقديري للكاتب.

  2. يقول .Dinars. #TUN.:

    أوروبا تحتضر وهي الآن في العناية المركزة تنتعش فقط فيما تبقى لها من خلال تطعيم لمجتمع هرم بجحافل من المهاجرين في شتى مناحي الحياة إلى أن تموت أوروبا ليرثها من بعد المهاجر إليها دون عناء يذكر أكثر من ذلك لن تجد أوروبا من يرثيها فهي عثراء لم تخلف.

  3. يقول عربي:

    كبرياء بريطانيا الذي جعلها لا تتقبل أن تستأثر آلمانيا بأكبر حصة من النفوذ على الصعيد الأروبي، وخاصة في النقطة التي أفاضت الكأس، وهي استقبال ألمانيا لقوافل المهاجرين واللاجئين دون تنسيق مع بعض القوى الكبرى في الاتحاد الأروبي، ( نفس هذا الكبرياء) هو الذي يجعل بريطانيا أيضا ترفض إعادة الاستفتاء على بريكزت، رغم ماثبت من أضرار ستلحقها من جراءه، ليس أقلها تلويح اسكتلندا بالانفصال عنها، وضعف موقفها أمام اسبانيا فيما يخص جبل طارق

  4. يقول عبدوا:

    المشكل في اوروبا الشرقية يدخلون ويخرجون متى شاءوا ويستفيدون من الاعانات الاجتماعية المفروظة من بروكسيل على بريطانيا على العموم الاتحاد الاوروبي سينتشر فيه الفقر بسبب الانفتاح على واوروبا الشرقية يجب ان تعود الامور كما كانت قبل سنة 2000

  5. يقول آصال أبسال:

    الزاوية الأكثر جدارة بالاهتمام والتعليق، كالعادة.. فقط للتذكير فيما يخص هذا القول:
    /رديارد كبلنغ، الشاعر والروائي البريطاني وحامل نوبل للآداب، استحق صفة الناطق الأدبي باسم الإمبراطورية البريطانية ومشروعها الاستعماري (أو «نبيّ الإمبراطورية» حسب جورج أرويل)/..
    دليلٌ ساطعٌ وقاطعٌ ولا مراءَ فيه آخرُ على أن مسألة الفوز بالجوائز، من مثل جائزة نوبل للأدب، ليست مقياسا في التقييم الصحيح والنزيه لأي علم من أعلام الأدب على الإطلاق.. وهنا أحيلك بهذه المناسبة، يا أخ صبحي حديدي، إلى ما سبق من ملاحظاتي النقدية على تقييمك “التعظيمي” و”التبجيلي” للشاعر البحريني قاسم حدّاد بوصفه فائزا بجائزة «ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي»، الذي اختتم مؤخراً في القاهرة.. !!

  6. يقول ثائر المقدسي:

    شكرا آصال أبسال، وكمثال قاطع آخر على عدم مصداقية الجوائز، ونستون تشرتشل نفسه فاز بجائزة نوبل للأدب… رغم أنه، كمجرم حرب بامتياز، كان أول من أمر باستخدام الأسلحة الكيميائية (الفوسفورية وما شابه) لإبادة مئات الألوف من أكراد العراق وجزء من سوريا وغيرهم…
    وقبلا، كان ضحايا تشرتشل الرئيسيون من الشعب الهندي حين سماهم “شعبا متوحشا ذا دين متوحش”… ولم يتورع تشرتشل البتة عن استخدام الأسلحة الكيميائية (الفوسفورية وما شابه أيضا) ضدهم دون أن يطرف له جفن… حتى أنه (أي تشرتشل) كان أكثر رجعية من زملائه الرجعيين في الحكومة البريطانية، وإلى حد التطابق الكامل والعجيب بين مواقفه ومواقف أدولف هتلر بالذات…
    وهكذا، وبفضل أفعال تشرتشل الإجرامية، تعرض أربعة ملايين أو يزيد من البنغاليين للمجاعة حتى الموت عام 1943… والأسوأ من ذلك كله أن تشرتشل هذا أمر بتحويل الطعام من الهنود المدنيين الذين يتضورون جوعا إلى الجنود البريطانيين رغم تجهيزهم الجيد بالأغذية وتخزينهم الإمدادت الغذائية القادمة من أوروبا آنذاك… وأخيرا، وعندما ذُكِّر تشرتشل بمعاناة ضحاياه من الشعب الهندي، كان رده “الإنساني” و”الأخلاقي” أن المجاعة كانت خطأهم الخاص، “لأنهم يتكاثرون كالأرانب”… وعلى الرغم من كل ذلك، فوَّزوه بجائزة نوبل للأدب… !!!

إشترك في قائمتنا البريدية