«الأنوات المشوهة» لرامي ابوشهاب… العقل العربي في مدارات التشوه والغياب الحضاري

حجاج نصار
حجم الخط
0

هل ثمة انوات مشوهة بدون تزاوج بين فعل صحيح وفعل آخر مريض أو معاق؟ فالنماذج تتزاوج وتنتج واقعها، ولكن هناك فرقا بين نموذج قائم على وعي للذات ناتج عن حفر داخلي، وإشكالية معاناة وإدراك لأزمة حقيقية تهدد وجوده كله، ويتشكل فى إطار مؤسسي قوي سليم، تكون مركزيته وأولوياته الكبرى الإنسان، ونموذج ناتج عن حتمية تاريخية كمولود معاق ألقي به فى الشارع، فالتقاه شحاذ ففقع عينيه ليتسول بها، فحاول أن يضفي عليه مظاهر التحضر، فوضع عينا زجاجية تظهر للناس ولكنها لا ترى، كما فعاليتها على أرض الواقع، فأصبحت أنا مشوهة، انتجت أنوات مشوهة كثيرة. فثمة فرق شاسع بين نهضة قائمة على إِشكالية نابعة من الذات والبحث عنها، ووعي حقيقي بـأزمتها، ونهضة مشوهة قائمة على التقليد شكلا وفارغة فى واقعها.
ومن هنا تأتي أهمية كتاب «الأنوات المشوهة» للناقد والباحث رامي أبوشهاب، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2019 ، توقيتا وأسئلة مهمة، ربما تكون ميلادا جديدا لكسر الجمود العقلي والتابوهات المشوهة، التي يعاني منها العقل العربي، كما أزمته الحضارية، حيث يطال الكتاب بأسئلته، وحفره على طبقات عميقة لخريطة النهضة العربية، وما نتج منها، أو ما أنتجته على أرض الواقع، على مستويات أربعة أساسية فى جملة النهضة، وهي المثقف كفاعل، والتنوير كبنية أو نسق عقلي داخلي، والمعرفة كإنتاج وأنظمة وحلول، واللغة كتجسيد للنهوض أو الانحدار.
يقدم الكاتب فرضيته الأساسية فى صدر الكتاب، وهي أن النهضة العربية ولدت مشوهة، وأنها سرعان ما خرجت عن مسارها التاريخي، فضلت طريقها فى متاهات متشابكة من الاستلاب والانهدام للفعل الحضاري.
ويقوم المحور الأول «النهضة والمثقف» على ركيزة أساسية، وهي أن النهضة في مركزيتها هي وجود علاقة مطردة بينها كفعل تغيير يهدف إلى تبديد قيم الانكفاء والغياب للأنساق المتصلة بوعي الأنا، والمثقف كأحد أهم أركان الفعل النهضوي. وبالتالي فإن قيام أحدهما يكون بالآخر والعكس.
ويختبر تلك العلاقة في ضوء مفهوم المثقف كأساس لفعل التنوير، وينحدر منها إلى مثقفي النهضة العربية، ويحلل ارتهاناتهم لمدارات متعددة، أدت في النهاية إلى غياب فعالية دورهم، فانصب على القشور، بدلا من البنى العميقة للجهل والتخلف، وإدراك قيمة العقل، والبحث عن الحقائق في ذاتها، انطلاقا من مركزية الإنسان والسعي إلى نهضته بمنهج ثنائية العقل والتجربة، ابتداء من الوعي بالأزمة الحضارية ونهاية بالحلول الملائمة، أيا كان مصدرها.

النهضة في مركزيتها هي وجود علاقة مطردة بينها كفعل تغيير يهدف إلى تبديد قيم الانكفاء والغياب للأنساق المتصلة بوعي الأنا، والمثقف كأحد أهم أركان الفعل النهضوي.

يشير الكاتب فى نهاية اختباراته إلى أن النهضة ولدت مشوهة، وذلك لتشوه النموذج الذي تبناه روادها، أو كانوا أسرى له، وطالت تلك الاختبارات، الكواكبي ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني وغيرهم، وألقت بهم في خانة النكوص الحضاري ، لارتهانهم للمرجعيات بسلطاتها التلقائية على اللاوعي، كما ارتهانهم للمؤسسات السلطوية، وانصباب هم المثقف العربي، أو من يسمون «برواد النهضة العربية»، طبقا للرواية المدرسية، بعملية التوفيق بين الماضي والحاضر الوارد من الخارج، أو الانسلاخ البات من الماضي، أو تبنيه كاملا، وذلك بمناهج القياس الساذج والاستنباط الأعمى، الذي لا ينطلق من الوعي بالمشكلة الحضارية ودراستها بقدر اهتمامه بمدى توافقها مع ما قال التاريخ، أو ما قال الآخر الحاضر، أو التوفيق بينهما، فأصبح الوضع منشدا إلى عمليات تحديث الظاهر، فأضحت نهضة ظاهرية مشوهة داخليا، فاقدة للمعنى كما للواقع. وساهم في تعميق ذلك التشوه أيضا، السياقات السلطوية التي كانوا يعيشون فيها، كما ارتهانهم لها، من الدولة العثمانية والاستعمار، وكلها ظروف ساهمت فى عدم تبلور المثقف الحقيقي كمفهوم وإجراء، وبالتالي عدم تشكل الوعي العربي كما النهضة.
فى المحور الثاني «إشكالية التنوير» يقوم الكاتب بجولته الأولى من الحفر في التنوير الغربي كمعيار لمنجزات التنوير العربي، لما استقر عليه من قيم عقلية، ومنهج تفكير علمي، يعتمد على ثنائية العقلانية والواقعية بتعبير باشلار، وتشابكهما في علاقة توحد غير قابلة للانفصام، التي أخرجت منجزات حضارية كبيرة، ويتابع ذلك المحور بداية من كانط حتى أزمنة السيولة وكتابات زيجمونت باومان، مع الاستقرار على أن النقد الذي صاحب مشروع التنوير الغربي مثل ميشال فوكو وباومان وبودريار، كان بمثابة قيمة بحد ذاته، وأداة للتقويم والتحسين، وليس رفضا للتنوير.
في حين أن إشكالية التشوه على إحداثيات النهضة العربية، تعالقت رؤاها في شباك ثقافة الاتصال والانفصال مع أو عن الآخر، فالثقافة العربية المعاد تشكيلها في ضوء اللغة والهوية والقومية والتاريخ، كما يرى الكاتب، ما انفكت تبحث عن صيغ أخرى للتماهي، أو الاتصال بالغربي كامتداد للآخر (طه حسين)، أو الانفصال عنه كنقيض (مالك بن نبي) فكأن تلك الرؤى كونت ثقافة للاتصال أو الانفصال للذات العربية ولكن فى مرآة الآخر. ويرى الكاتب أن قلق الثقافة العربية نتيجة الارتهان لمرجعيات متعددة، أدى إلى أن تقع تلك الثقافة في آفاق ملتبسة من القلق والإبهام والدوران في السطحية، والإيهام بالتعقيد وادعاء العمق، والانفصال بين قمة الهرم ممثلة بالمثقفين والقاعدة التي تمثلها العامة، وكل ذلك حشد لخفوت المثقف والثقافة باعتبارها قيمة، وزاد من ذلك الانطفاء انتشار العوالم الافتراضية، ودخول العالم في حالة من التشتت واللاخطية والتشابك المعقد، وعمقت ذلك أزمة الثقافة العربية، بابتعادها عن الإنسان كمركز لأي نهضة، واستثمار النقد كأداة للتفكيك والحوار والتحسين المستمر، بدلا من التعالق في إشكالية الفهم الواحد والوصاية ولعنة الانتداب، وانبثق من ذلك تلوث ثقافي عميق على كافة المستويات، زاد من التشوه والإعاقة واختلال موازين الذائقة النقدية، واستثمارها في التكريس لأوضاع غير طبيعية كأنها هي الحياة في حقيقتها.
ويذهب الكاتب إلى أن إشكالية المعرفة العربية هي إشكالية منهج بالأساس، بالإضافة إلى المناخ الذي تحيا فيه من القمع وانعدام وتحريم وتجريم الأسئلة والحرية، وأثر ذلك على البحوث التي التصقت بحدود المعرفة ومظاهرها، وهجرها لمنهجية الطفولة، كنهج بريء يجترأ أن يسأل عن كل شيء، وينخرط في اختبار حقيقي للمشاكل الحقيقة، وعدم تقبل معرفة أو فكرة، بدون إخضاعها للتجربة والتمحيص، بثقة فى النفس والانفلات من الخضوع لأي مدارات سلطوية.

تراجع اللغة العربية مرتبط بانهدام التصورات الحضارية للعربية، وتمثيلها في مخيال المجتمع العربي في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى الانتكاس الحضاري الذي يشهده العالم العربي

فالمعرفة العربية سكنت في الاعتقاد بأن القيم المعرفية فى أبعادها الدنيوية والحياتية والغيبية باتت منجزة ولا حاجة بنا إلى إعادة النظر، وهذا ما يتجنب المسلك الحقيقي للمعرفة الذي يجب أن يبقي في تساؤل دائم. ويخلص الكاتب إلى أن المعرفة العربية هي عبارة عن بقايا معرفة، موروثة إسلاميا أو منقولة من الغرب، أو أنها نتاج بدائي ومتخلف ومحلي، قائم في خانة السلبية، وانعكس ذلك على الجامعات العربية، التي باتت أسيرة الانعزال، والغياب وافتقاد دورها الحيوي فى رفد صناعة القرار بالدراسات العلمية.
ويصل الكاتب في نهاية محور المعرفة العربية إلى قمة تشخصيه لإشكالية الخلل في النهضة العربية، في أن الممارسة العقلية العربية، أصبحت أسيرة ما يطلق عليه الكاتب «العقل الاستعاري» وهي آلية تعني استعارة الخطابات المنجزة، سواء كانت تاريخية، أو معاصرة، من أجل تشكيل ذواتنا في ضوئها، ولكن عبر المجال الخارجي فقط، فهناك مؤسسات تعليمية ومؤسسات ثقافية ومناداة بحرية المرأة والعدالة، ولكن تلك الممارسات كافة ما هي إلا تكوين استعاري يكمن في القشرة الخارجية للعقل العربي، الذي ما زال يحتفظ بتكوينه القبلي، والمتحفظ والإقصائي، وبالتالي فشل الممارسة النقدية نتيجة ذلك النسق المستتر فى عمق العقلية العربية، وأن ذلك أدى إلي أن تكون التنمية العربية قائمة على استعارة حلول نجحت في سياقات أخرى، لتطبيقها على مشاكل عربية لم تدرس، وعليه فشل في النتائج والنهوض الحضاري، وذلك ناتج عن الفهم والتشخيص المنقوص للمشكلة، الذي تلقائيا يؤدي إلى نتائج مشوهة، ليست ذات صلة بالواقع كما هو ماثل، وبالتالي عدم التئام دائم للأزمة إلى ما لانهاية.
وفي محوره الأخير»اللغة» يشير الكاتب بدقة إلى أن تراجع اللغة العربية مرتبط بانهدام التصورات الحضارية للعربية، وتمثيلها في مخيال المجتمع العربي في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى الانتكاس الحضاري الذي يشهده العالم العربي، فنحن لغة، والنهوض والانحدار تجسده اللغة، كما يرى أن اللغة العربية تختزن قيما حضارية تنتمي إلى ثقافة إيجابية تحمل قدرا من الجمالي والإنساني، مقابل القيم السلبية، وأن تفعيل أي جانب منهما سيؤدي في النهاية إلى الحضور أو الغياب الحضاري.
سيظل كتاب «الأنوات المشوهة» محاولة جادة لتفعيل الدور الحقيقي للنقد، كما الناقد كأساس لأي نهضة، فطرح التساؤلات الجريئة، وإحداث الوعي العميق بأزماتنا العقلية والواقعية، هي بداية النهوض للعقل العربي وعالمه، فالكاتب لم يقدم إجابات بقدر ما قدّم أسئلة جريئة تحفر في جسد التردي الحضاري الذي نعيشه والذي يعيشه العقل العربي، قال إن النهضة العربية لم تتحقق وولدت مشوهة، لم يقل ما الحل، فالحل في يد الجميع رهنا بإرادتهم، والسؤال هو ما طرحه وهو حد ذاته شعلة في طريق النهوض.

٭ كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية