من أين تبدأ لعبة الأدب وأين تنتهي؟
الإبداع عذاب وألم وأمل على سمْت الكتابة. كيف يحول الكاتب مواقع نجوم بعيدة إلى جواهرَ وماس قريبة، نستشفها عبيرا فيَّاحا، بل هواء جديدا يعبق بنسيم الحياة؟ لا حديث عن أدب خال من إمتاع ومؤانسة، ولا خير في كتابة وإبداع غير مَسْجور بطموح الخيال والتغيير.
نتحدث كثيرا، بل نستعذب الكلام عن أساليب فنية في الكتابة؛ أهي شخصيات «تلعبُ الورق»؟ أم هي زمكان في «الجبل الأقرع»؟ أم هي حَبكة «الأيام»؟ وعلى الرغم من ذلك فإننا ننسى شيئا مهما، في تقديري، العلاقة التي تربط بين السارد وشخصياته، التي دفنها في الأقاصي، وعاد وحيدا، ولم يترك الجسر. السارد المتواري خلف صوتي وصوتك وصوت الزمان، يأتينا برؤية نتحسس بها الوجود. علاوة على أن رؤيتي ورؤيتك من خلف، أستحضر بها وعبرها كتابات ذهبت قاصدة النهايات؛ فما كان نجيب محفوظ، الروائي المصري، إلا شاعرا روائيا، وكهنوت الرواية العربية، يتسامى إحساسنا عبر شوارع وحارات القاهرة والإسكندرية وبور سعيد وثرثراث فوق النيل.
إن ما فعله نجيب محفوظ في «الرجل الثاني»، لهو ضحك كالبكاء، بل صياح وعويل وهرج ومرج وجلبة في حارات الفتوة المصرية. قرأتها في مراحلي الأولى، وأعدتها مرات ومرات، وفي كل مرة هي ـ أي القصة ـ في شأن. هذا اللعبُ بمَصائر البلاد والعباد، تتحسسه في كل حرف وفي كل كلمة وعبارة. عَصَرَ الشخصيات وجعلها عاجزة عن الحركة؛ مشلولة الأطراف والسواعد، بل مصابة بإنفلونزا الهزيمة؛ ليجعل من «موجود الديناري»، الشخصية الرئيسة في القصة؛ نموذجا لشاهد على العصر. في «الرجل الثاني»، دائما، اختلط الحب باللجوء القسري الاضطراري بين عدوتين أو بين جنازتين، اختلط الثأر بالطاعة العمياء، فأصبحت الحياة سمفونية المعذبين على صراط الدنيا. فمهما كانت ابتسامة نجيب محفوظ الشهيرة، فإنها تظل طالعة بما تختزنه من أساطيرَ فتوة بائدة، تتعَجـْرد أوراقها على طريق كنـَّسته ريح الخريف.
فالخريف خريفان؛ خريف عُمر آفل ينظر إليه «موجود الديناري»، إنه الأسطورة الباقية؛ آخر الفتوات. وخريف ثان، يعن لنا من مقهى النجف، حيث تستقبل حيوات جديدة، آتية من مُزنات ندية تسح ما تسح من دموع المطر. إنها شخصيات تلعب الورق مع الزمان ومع النهايات؛ شخصيات اختار لها أن تكون فاتحة لما غلق من أسرار؛ «شطا الحجري» و«طباع الديك». وأنا أقرأ وأتأمل وأناقش، تتزاحم في ذهني أسئلة من قبيل: كيف تكون للأسماء دلالاتٌ عميقة في البنية العاملية للنص القصصي؟ ماذا يصنع، نجيب محفوظ، بهذه الأسماء؟
إن الدلالة لا تكفي، بل التركيب أيضا يقف عاجزا أمام الإمساك بروح الرؤية الفنية، أو بالأحرى رؤية نجيب محفوظ للعالم. بعد قراءة العديد مما خلفه عملاق الأدب، نلاحظ أن نصوصا تخترق سجوف ليله المظلم، وترحل بعيدا من زمن إلى زمن، تهجر مواطنها بحثا عن ضفاف أثيلة ربيعية وجميلة، تشع نورا وهَّاجا. هي هكذا متعددة، وناجمة عن التعدد في المعرفة ومصادرها واشتقاقاتها؛ في الفلسفة وفي علم الأدب وعلم الأديان والأنساب وعلم الاجتماع والتاريخ والآثار والسيميائيات… كلها راحلة في مداراته الإبداعية. إن ما يستطيع فعله الأدب هو أن يحملنا على حصان مجنح، نسافر عبر ثنيات الزمن في الماضي والحاضر والمستقبل؛ إن ما يستطيعه الأدب، أيضا، هو أن يحافظ على جوهرنا الإنساني. فضلا على أن ذلك لعبة؛ بما هي جاءت عبر تقديس لا تدنيس ما يصبو إليه الأدب ؛ فهو المنقذ والمنتقد والمحرض والمؤرخ؛ سيرورات زمنية راحلة نحو سدرة المنتهى.
فمع تزيفتان تودروف، و«الأدب في خطر»، كان ينتقد بشدة الاختزال العبثي للأدب، فهي لعبة فاشلة، تحجب عنه الهدف الذي خلق من أجله. لا مؤسسات تحتضنه، ولا منتديات تعرف برسالته، فهو كالبحر، حسب أبي الطيب المتنبي، يقذف للبعيد السحائب ويعطي للقريب الجواهر. ففضلا عن رسالته، حسب تزيفتان، التي تحافظ على الكينونة، نجده يفسح أبوابا أفضلَ لفهم الإنسان في ذاتيته والعالم من حوله. فإذا كان الأدب يدخل بنا عوالمه السحرية عبر التجارب الإنسانية الممتدة، وغالبا ما يكون مصدرها تاريخيا مغمورا غير متداول، فإننا على الرغم من ذلك، نعيش حيوات متعددة، وننصت إلى خفقان قلوبنا الوجلة، التي تخشى أن تغمرها مياه، لا يسبح فيها الأدب؛ مياه ملوثة. فأيا كانت اللعنات، التي تلاحقه وتحاول طمس هويته، وتدفع إلى إقبار صوته، فإنه باق حسب الشـَّابي، رغم الداء والأعداء.
يحكي نص «حدث ذات يوم في الجبل الأقرع» عن البطل، الذي فرّ ليلا من المدينة باتجاه الجبل الأقرع لصيد الغزلان. حاملا معه دنس المدينة وسمومها، فبعد العديد من المحاولات الفاشلة استطاع، أخيرا، أن يظفر بغزالة واحدة.
بالموازاة مع ذلك، يصور لنا تزيفتان ولعه وهيامه الشديد بالأدب، ليس فقط كونه يحمل رسائل للعالم، بل يعينه على فهم نفسه أولا، ومن ثمَّ يدخل في تواصل جيد مع الآخر عبر حميمية المطالعة المستمرة على امتداد الزمن، حتى أصبحت القراءة طقسا يوميا ومحجا للمعتكفين والرهبان والمتيمين. فلا خير في كلام هجره المعنى، وظل يناجي السماء، بما هي لا تمطر ذهبا ولا فضة. فمن بين الرسائل التي كان يوليها تودوروف، اهتماما كبيرا، تلك التي كان يتقاسمها مع مواطنته جوليا كريستيفا، بعد استقرارهما في فرنسا، هروبا من النظام الكولونيالي البلغاري. فلعنة الأدب، في إحدى رسائله، تتعلق بدراسته لمرض الحمى والصرع ، الذي أصاب فيودور دوستويفسكي، صاحب الخالدة في روائع الأدب العالمي «الجريمة والعقاب». وما يترتب عن هذا المرض من اكتئاب حاد، وسفر نحو النهايات. فلولا فسحة الأدب، الذي يستطيع فعل الكثير، ويغير من وجه الطبيعة والإنسان، لما كان بمقدوره ـ أي الأدب ـ أن ينتشل أجسادنا حية من أعماق الاكتئاب حسب تودوروف.
إن مرض الصرع والحمى الذي تعايش معهما دوستويفسكي، منتصف القرن التاسع عشر، انتقلا سريعا إلى آدابه، فهو ـ أي المرض ـ من النصوص الغائبة والمهاجرة، التي يحفزها اللاشعور؛ فتظهر في سلوكات الشخصيات وتصرفاتها ومواقفها الغريبة. يبدو، في رائعة «الجريمة والعقاب»، أن الشخصية الرئيسة راسكولنيكوف كانت غريبة الأطوار. وما الجريمة التي ارتكبها في حق المرأتين العجوزتين، إلا ترجمة حقيقية للخلل العُصابي، الذي يعاني منه السارد. بيد أن الطريقة البشعة التي تمت بها عملية القتل، في العمل السردي، تشي بمدى تحكم العُصاب في سلوك الشخصيات، التي اختارها السارد في مسرح الأحداث. يقول دوستويفسكي في رواية «الجريمة والعقاب»: «أصابتها الضربة الأولى في قمة رأسها، وساعده في ذلك قصر قامتها. وكانت الرهينة لا تزال في إحدى يديها. ثم انهال عليها بكل قواه بضربة ثانية وثالثة مستهدفا الرأس؛ فتفجر الدم وكأنه سفح من إناء، وتهاوى جسمها على الأرض، وتراجع إلى الوراء ليتفادى الاصطدام بها… كانت قد فارقت الحياة، وقد اتسعت حدقتاها وكأنهما على وشك الخروج من محجريهما، بينما راح وجهها وجبينها يختلجان ويتقلصان من تشنجات النزع الأخير».
وبهذا يكون الأدب ساحة تتزاحم فيه الرؤى، وتتصدع فيه القناعات، ومن دون أدب لا يمكن للحياة أن تتجدد، بما هو تجديد في الصياغات الجديدة، وابتكار أساليب حديثة، لتوليد نصوص مفعمة بالحيوية، تتجدد من داخلها بواسطة لغة تتمطط حسب مقامات تركب المجاز والبيان. ومنه فالرؤية للعالم تعد جوهر الخطاب السردي الحكائي، فبموجبه نعود إلى البدايات، إلى النطفة الأولى، وغير بعيد عن ذلك يبني الكاتب عريشه الممتد، تائها بين الأشـُنة والغياض، يزيل ويشذب ويقلم، ويختار من قطع الغيار ما يناسب، حسب تعبير الصوفيين، الحال والمقام ؛ لتعطي للحكي إمتاعا ورونقا. غير أن رؤية العالم بمثابة سفر في الإمتاع بلا ضفاف وبلا حدود، لها مرجعيات جمَّة، قد تكون فلسفية أو تاريخية أو نفسية أو أيديولوجية، يدخل الناقد إلى هذا العالم الفسيح، يشحذ فيه أدواته، ويقتفي أثرها شاهرا صَمْصامه؛ ليفتك بها ويرديها، أمام القارئ الحصيف، قتيلة ومضرَّجة في دمائها زرقاءَ.
في كتاب «ديوان السندباد» لأحمد بوزفور، الذي ضم بين دفتيه ثلاث مجموعات قصصية «الغابر الظاهر» و«صياد النعام» و«النظر في الوجه العزيز»، تتبلور رؤية الكاتب من خلال مجموعة من القصص، أبرزها قصة «حدث ذات يوم في الجبل الأقرع». فأيَّا كانت مستويات القراءة لهذا النص القصصي، ضمن مجموعة «النظر في الوجه العزيز»، إلا وتستوقفنا فلسفات كامنة وراء خيوط هذا النص الحكائي. فمن زاوية أخرى، لم يقف أحمد بوزفور عند حدود العلاقة، التي تربط بين البطل والسارد. وإنما تجاوز ذلك، لينصهرا معا في بوتقة واحدة، مستغلا في ذلك لعبة الضمائر في النص القصصي. فتارة يبدو قريبا من شخصياته، وتارة بعيدا يترك لها مجالا للحرية والتصرف.
يحكي نص «حدث ذات يوم في الجبل الأقرع» عن البطل، الذي فرّ ليلا من المدينة باتجاه الجبل الأقرع لصيد الغزلان. حاملا معه دنس المدينة وسمومها، فبعد العديد من المحاولات الفاشلة استطاع، أخيرا، أن يظفر بغزالة واحدة. فقبل أن يفوز بغنيمته دخل في حوار بوح مع الغزالة؛ فاعترف بما يعانيه ويشكو منه في المدينة. قال السارد على لسان البطل: «أنا هارب… ورائي المدينة… ورائي سرطان من الأزقة والجدران.. المدينة هي التي أطلقت عليك النار لا أنا.. آه لو فهمت يا سيدتي». فالعودة إلى الصفاء إلى الطهر إلى البدايات الأولى، هي لعب وشقشقة مع الزمن. فضلا عن أن المدينة تعتبر نتيجة التوسع العمراني والانفجار السكاني، الذي جاءت به الحضارة الإنسانية. فلعبة الأدب لا تكمن في الإفصاح عن النوايا، إنما يدخل السارد غمار ذلك بالوكالة. فهو لم يصرح بموقفه إزاء الحضارة، وإنما ترك المقومات الفنية، الحوار والفضاء والزمن، أن تنوب عنه في رقعة الكتابة. لذا، سيظل الأدب يقتفي أثر المتعة، التي لا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها أبدا؛ بما هي تساعده على أن يحيا حياة سعيدة، بل يكتشف بها وعبرها جوهره الإنساني.
٭ كاتب مغربي