عن «داعش» وأخواتها

حجم الخط
8

أحدث إنتصار الثورة الإيرانية عام 1979 حالة من الزهو الثوري في أوساط المجموعات الشبابية اللبنانية والفلسطينية في بيروت، وامتلأت المدينة بشعار: «اليوم ايران وغداً فلسطين» الذي تحوّل الى ملصق ملأ حيطان المدينة.
في ذلك الزمن كانت الثورة الفلسطينية وحلفاؤها اليساريون اللبنانيون، يعيشون أزمة الأفق السياسي، بعد الدخول العسكري السوري الى لبنان، واغتيال كمال جنبلاط، وانهيار حلم انتصار الحركة الوطنية في الحرب الأهلية اللبنانية.
الثقل العسكري الفلسطيني عاد الى الجنوب، أما الحركة الوطنية فبدأت تترنح تحت ضربات قمع النظام السوري، وبدأت صفوفها تتشقق وخصوصا في الجنوب، مع صعود حركة «أمل» كإطار شيعي متحالف مع نظام الأسد.
جاءت الثورة الإيرانية كمفاجأة مذهلة بلبلت كل الحسابات، وكمؤشر مبكر على سقوط اليوتوبيا الشيوعية التي سيتم استبدالها باليوتوبيا الإسلامية.
وقد تسنت لي فرصة الذهاب الى طهران من ضمن وفد فلسطيني كبير ترأسه ياسر عرفات، حيث اجتاحتني مشاعر متناقضة، فمن جهة أولى وقعت تحت تأثير سحر الخميني وشخصيته الكارزمية وقدرته على قيادة واحدة من أكبر الثورات الشعبية في التاريخ المعاصر، ومن جهة ثانية أصبت بالخيبة خصوصا بعد لقاءاتي برفاقي اليساريين من تنظيمي فدائيي خلق ومجاهدي خلق، الذين كانوا يعيشون خوفا كبيرا من سيطرة الملالي على الثورة، وهو خوف سرعان ما ثبتت صحته مع تصفية التنظيمين اليساريين وإبادة المجموعات اليسارية المستقلة، وتدمير حزب توده الشيوعي والقضاء على حركة تحرير ايران، التي كانت أحد أشكال العمل الاسلامي التقدمي المتأثر بالمفكر علي شريعتي.
عاصفة الثورة الإيرانية شكّلت للكثيرين من رفاقنا الفلسطينيين واللبنانيين مخرجا من أزمتهم الفكرية، فبدأت الدعوات الى تبني الخيار الإسلامي كوسيلة لإعادة نسج العلاقة بالجماهير، وكإطار فكري جديد بعد تداعي الماركسية وخصوصا بتلويناتها الماوية، عقب فشل الثورة الثقافية وانهيار عصابة الأربعة، أي كتلة ماو في الحزب الشيوعي الصيني.
ولولا الإنزياح الأيديولوجي نحو الإسلام، لما قامت تجربة حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس، التي ستنتهي بمسلسل من الاغتيالات بلغ ذروته التراجيدية باغتيال القائد الشعبي الطرابلسي الفذ خليل عكاوي «أبو عربي».
لم تنجح الأسلمة اليسارية الفتحاوية التي قادها منير شفيق ومعه مجموعة من الكوادر والمثقفين في حل معضلة العزلة اليسارية، على الرغم من أنها قدمت نماذج نضالية كبرى وكوكبة من خيرة الشهداء: ابوحسن قاسم ومروان وحمدي، كما نشأت الكتيبة الطلابية على تماس وثيق معها، بما قدمته من نموذج نضالي باهر. ولكن سرعان ما جاء الإسلاميون أنفسهم الى الساحة، من الجهاد الإسلامي الى حماس، ومع القاعدة تغير المشهد بشكل جذري، وخصوصا بعد الإحتلال الأمريكي للعراق. ودخل عامل جديد ليعطي الصراع اشكاله الوحشية، هو عامل الصراع المذهبي السني-الشيعي، الذي سينتشر كالنار في الهشيم، وسيكشف ان اليوتوبيا الإسلامية ليست سوى شكل للتدمير الذاتي والانتحار المجتمعي.
غير أن الثقافة السياسية العلمانية واليسارية رفضت أن ترى، او كانت عاجزة عن تلمّس عمق مأزقها. الحزب الشيوعي العراقي الذي ضمر كثيرا بفعل القمع الصدّامي ونتيجة أزمة التفكك التي ضربت اليسار بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية، انضم الى مجلس الحكم الذي انشأه الأمريكيون وترك لأبي مصعب الزرقاوي والقاعدة مهمة مقاومة الاحتلال الأمريكي، ومن جهة أخرى بدأ حزب الدعوة الشيعي في اعداد نفسه لتسلم السلطة في العراق تحت الاحتلال.
لم نرَ الى أين يمضي بنا الإنهيار الحتمي للاستبداد الذي أعلنته ثورات الربيع العربي. من المرجح أن التيارات السياسية العلمانية اعتقدت أن النموذجين التونسي والمصري سيسودان، وهما نموذجان قاما على اتكاء الحركة الشعبية على الدولة من أجل اسقاط الاستبداد. في تونس تم تحييد الجيش، واستندت الحركة الشعبية الى التراثين النقابي والعلماني، وفي مصر رضيت الحركة الشعبية بالمخرج الذي قدمه الجيش، فوقّعت صك تهميشها بيديها.
الاستثناءان التونسي والمصري، على تباينهما وهشاشتهما، ليسا قابلين للتطبيق في بلاد لا جيش فيها كليبيا والعراق، أو تحول جيشها الى ما يشبه ميليشيا السلطة كما في سوريا. لذا دخلت سوريا في الحرب الأهلية وتبعتها ليبيا ويتبعهما العراق اليوم. وفي الحرب الأهلية تشكّل النموذج الإسلامي الذي يقلّد الايرانيين وحزب الله ولكن من موقع النقيض السني، وصارت بلادنا مسرحا للصراعات الإقليمية التي وجدت تعبيرها المحلي والعالمي الأمثل في «داعش» و»النصرة» واخواتهما.
قامت آليات الحرب الأهلية بطرد شباب الثورات من الثورة، فالتنسيقيات السورية على سبيل المثال لم تعد تملك أي جواب على آلة القمع الوحشية التي استخدمها النظام، والجيش الحر، الذي لم يدعمه احد، بدأ يتلاشى لمصلحة الإسلاميين الذين تدفقت عليهم الأموال الخليجية وفتحت أمامهم الحدود التركية.
عمليات طرد الثوار من الثورة، هي المأساة التي تعيشها بلادنا اليوم، وهي تتهاوى بين قبضة الاستبداد وقبضة «داعش»، والقبضتان تتحركان تحت سماء تحتلها طائرات التحالف الأمريكي، وهو تحالف لم يستقر على هدف، وليس من المستبعد أن يتحول الى جزء من آليات التفتت، بحكم التناقضات التي تعصف به.
ليس ذنب «داعش» وأخواتها أننا لم نرَ، بل الذنب هو ذنب عجز قوى التغيير بمختلف تياراتها عن بلورة مشروع جديد بعد تهاوي اليوتوبيا اليسارية وتحللها، فجاءت «داعش» لتملأ فراغاً سياسياً وروحياً بوهم دولة الخلافة، التي ليست سوى مشروع حروب أهلية وإقليمية لا نهاية لها.
«داعش» ليست فقاعة أتت من لا مكان، انها محصلة هزيمة قوى التغيير، لذا ليس من المستغرب أن تستقطب الضباط البعثيين المسرحين من الجيش العراقي بعد حلّه، وليس مفاجئاً أن تتحول الى عنصر جذب دولي، في زمن ما بعد الحداثة وما بعد القيم الذي صنعته النيوليبرالية، لكن المستغرب فعلا هو أن لا تشكّل الكارثة التي نعيش بداية وعي جديد يبدأ في بلورة مشروع البديل.
وهنا يجب التنبه الى ما يجري في فلسطين بعد انتصار الصمود في غزة. الفلسطينيون الذين يعيشون هول الاحتلال يعرفون أن هناك هولا أكبر قد يكون في انتظارهم، هو هول عدم نجاحهم في بلورة وحدتهم النضالية في مشروع مقاوم يضمّ الجميع، ويسمح للتعدد وللتمايز بين الإسلاميين والعلمانيين بأن يكون عامل وحدة لا عامل تصدّع.
الرهان العربي الجديد يبدأ في فلسطين، وعلى الفلسطينيين أن يعلموا أن مسؤولية من يمتلك بوصلة المنطقة تحتّم عليه أن يقدّم نموذج الخروج من هاوية التفكك.

الياس خوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    شكرا يا أستاذ الياس على هذا التحليل المتوازن
    المشكلة الآن مع غلاة الاسلاميين وغلاة العلمانيين
    فهما لم يجتمعا ولن يجتمعا لأنهما يريدا الحكم فقط

    الوسطية هي التي تجمع النقيضين الاسلامي والعلماني والدليل تونس

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول Ossama Kullijah سوريا:

    شكرا اخي الياس لاشك ان النموذج الفلسطيني يمثل احد طرق الخروج من هذة الازمة والتجربة الفلسطينية مع الاحتلال والاستبداد والتمزق التقاتل والتشرذم هي اعمق بكثير من شقيقاتها في الدول العربية الاخرى وبتقديري اذا نجحت ان شاء الله ستكون نموذجا جيدا وفعلا بوصلة نستند اليها وبالعودة الى التحربة المريرية في سوريا ولماذا سيطرت داعش او ملاْت الفراغ الذي نتج عن الخيار العسكري الدموي التعسفي لبشار الاسد ولم يتبقى امام الحراك السلمي اي فرصة بعد ان ترك العالم الشعب السوري يذبح هكذا بلا اعتبار لاي انسانية فلم يبقى للتنسقيات والشباب والشعب السوري الا الصراخ باعلى الصوت مالنا غيرك ياالله عند هذة الدقائق الحرجة وقف العالم يتفرج على سفك الدماء جماء الاطفال والنساء الشيوخ بكل انواع الالة العسكرية الدموية التي يمتلكها النظام السوري القبيح (ولهذا اعتبر اوباما انه منافق لانه تفلسف كثيرا وبقي خياره النهائي انه وقف الى جانب بشار الاسد ونظامه) وفتح بشار الاسد الباب من الشرق مع العراق لتعود جحافل المجاهدين الذي فتح لهم الباب من قبل بدعوى محاربة الاحتال الامركي

  3. يقول سوري فلسطيني ألمانيا:

    شكرًا اخي العزيز الياس على هذا المقال الرائع ، اذا كان الفلسطيني يمتلك بوصلة المنطقة ، فأنت تمتلك القلم الأكثر حكمة في المنطقة ،هذاليس مدحاً فأنا لا أحب المدح ولا المداحين ، لكنه تقديراً لمن يحمل هم المنطقة .

  4. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

    نهاية المقال ، و بعد الإستعراض و السرد التأريخي الموجز و العميق ، يلخص الأمر كله ،نعم الكارثة الكبرى ليس في وجود هذا التنظيم المسخ بيننا ، الكارثة كل الكارثة بعدم وجود الفكر الجاذب البديل !!
    نعم صمود غزة الأسطوري الأخير ، هو فقط ما يبقى جذوة الأمل مشتعلة ، لكن السؤال من يحفظ هذه الجذوة بين راحتي يده ليحميها من الإنطفاء و من ثم ليطورها ناراً ونوراً عظيمين ؟! تحرق الخبيث و تنور للطيّب !

  5. يقول حي يقظان:

    “الرهان العربي الجديد يبدأ في فلسطين”!!!

    صدقني، يا أخي إلياس، لو لم يتم انهيار العراق ومن بعده انهيار ليبيا وانهيار سوريا، ولو لم يتم تنفيذ مشروع “إسرائيل الثانية” في جنوب السودان، ولو لم يتم إنهاء مشروع “إسرائيل الثالثة” في كردستان العراق، على أقل تقدير، لبقي حلم الفلسطينيين بـ”الدولة الفلسطينية” (ويا لها من “دولة” حقًا!)، لبقي حلمًا معلقًا بين السماء والأرض حتى لحظات كتابة هذه الكلمات الحزينة، إن لم أقل إلى يوم يُبعثون!!!!

  6. يقول حسن:

    في مقالك يا أستاذ إلياس دقة واعتدال. لكن ما يمكن إضافته لمزيد من الدقة، هو التمييز بين النقيض السني المعتدل والنقيض السني السلفي الوهابي. هذا الأخير استفاد من تخلي السادات عن تمويل الوافدين للأزهر وقيام الملك فيصل بذلك. أدى هذا الدعم والتمويل إلى امتداد التيار السلفي في أرجاء العالم فصار أرضية للتنظيمات التكفيرية. كذلك أغفلت الإشارة إلى التحريض الدولي والشحن الإعلامي المنظم والدعم بالمال والسلاح. لقد استغلت القضايا العادلة لأهداف خارجية غير عادلة. والواضح أن الهدف هو إحداث فراغ حول إسرائيل وإلهاء الشعوب المحيطة بها بالصراعات الداخلية، وتحطيم الجيوش والأجهزة الأمنية والثروات والبنى والصناعات، وإدامة الصراع إلى الوقت الذي تتمكن فيه القوى الخارجية من إقامة الأنظمة الموالية لها. ذلك أن شعوبا ثائرة بغير قيادة توحدها ومبادئ يمكن أن تحدث فراغا. أما الذي يملأ الفراغ فهو من يملك المال والسلاح والإعلام. وشعوبنا فقيرة في هذا المجال.

  7. يقول -H. Abu Baker, Berlin Germany:

    Thank You Elias Khuri,
    You and others stimulating such thinking in this bad time are the last hope for the nation

  8. يقول غادة الشاويش:

    كم اشعر يا اخ الياس خوري ان قلمك يكتب من قلب صادق محترق ومن حس يجمع ولا يفرق من قلب يحب ان يرى امته وخيريها صفا واحدا تحت لواء النضال والعدالة حتى لو اختلفو في المضامين كم تمنيت لو ان قلما علمانيا واحدا يشبه قلمك الصادق الذي لا يعاني نرجسية العلمانيين ولا انغلاق الاسلاميين قلم الاستثمار استثمار المشتركات التلذذ بالقدرة على تنظيم الخلاف دائما كنت اقول حتى بح صوتي ان مشكلة حمل السلاح لحل الخلافات تعني اننا نفتقر الى ادب الخلاف لا نستطيع ان ننظم خلافاتنا اخي الياس في خندقي انت وفي خندقك انا ذللك ان الله يعرف الخيرين ولا يهمه عنوانهم اسلاميين او علمانيين انهم الذين يعملون لخير المجموع انهم الذين ينطقون بالحكمة في زمن عزت فيه انهم المتواضعون الذين يعرفون كيف يقرؤون من يفكر بغير طريقتهم فيترجمون له بحسب تفكيره منذ ان بدا الاستقطاب المذهبي وانا اقول الفلسطينون سيكون لهم دور لانهم خبروا فضائل الجميع وسلبيات الجميع ولان قضيتهم لا يختلف عليها اثنان انها الجزء الخير في كل شرير منا اشرار الشيعة واشرار السنة اشرار الليبراليين واشرار العلمانيين انها الرقم الذي يمكن ان يصهر الفتنة هذا اذا لم تفتت شعبنا وصفنا مشاريع الاختراق اللئيمة التي تريدنا ساحة خلفية
    اخي الياس سلم القلم وسلمت الذاكرة التي تعيد سرد تاريخها بموضوعية سلم القلب الصادق والكلمة المجمعة والاه على الحال التي تكاد تطل من اسطرك ولعلك احيانا تحبط منا نحن الجيل العصبي الغرير الجديد وتقول كنبي منبوذ في قومه ( على من تتلو مزاميرك يا داوود تتلوها على ارواحنا يا الياس ارواحنا التي تتوق ان ترى كل الخيرين يلبسون الكوفية ليتذكروا من هم
    وزارة المستضعفين عاصفةالثار جريحة فلسطينية تحب قلمك وعصارة بندقيتك الثائرة وستحمل كلماتك صليبا على صدرها حتى الشهادة !يا رفيقا سبقنا في التضحية والبذل من نحن حتى نعلق يا اوائل الثوار ومن لا زلتمتذكرون دموعكم جيدا بعد الاجتياح خبرني عن هذه اللحظة كنت في الصف الثاني يا معلمي الصالح الياس وانا اتذكر مشاهد الجثث المرعبة معلمي الياس اكتب مقالا لاسفك دموعي عن خروج الثورة من بيروت وما قبلها انت ورنا ذاكرتنا الجريحة فلا تزهد بالقلم بعد البندقية
    تلميذو محبة !

إشترك في قائمتنا البريدية