في عالم ٍعربيٍ أُثقل ربيعُه بخريفٍ من التطرّف والانحدار، وبحركاتٍ احتجاجية سلميّة ضخمة، انطلقت وتفجّرت كنتاجٍ محقّـق لانتشار الفساد والركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية، وكمحصّلة حتمية لحالة بائسة من التضييق السياسي والأمني وقمع الحريات، لم تَغِب خصوصية الدول عن واقع حالها، ولم يطغَ حراك الملايين على رمزية بعض شخوصها، ولم تحجب أنقاض المدن المدمّرة بقنابل الطغاة وسيوف الضالين، عن كينونة الفلوجة ودرعا وعين العرب وغيرهم أن تكتب تاريخاً، وترسم واقعاً وتحكي قصة.
في كوباني تلك المدينة السورية التابعة لمحافظة حلب، والتي تشهد صراعاً عنيفاَ بين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وبين المقاتلين الكُرد، في تلك المدينة رسائل ودلالات تتجاوز كونها رقعة جغرافية لها أهمية كسواها، فمن كوباني وحولها رسالة كرديّة فحواها أن هذه المعركة هي معركة وجود وحلمٍ وهوية، وهي معركة تستبق وتنافس واقعاً سياسياً وجغرافياً له من التداعيات الشيء الكثير، وهي معركة يسطّرها صمود كرديّ كبير، يُصارع خلالها من اجتاحوا المدن والحدود، واحتلوا المنابع والموارد، وغيّروا واقع الكثيرين وعيشهم، وهم نفسهم من أرعبوا مئات الآلاف من الجند المدجّجين، وهي معركة نتيجتها أن مستقبلاً كردياً قد بزغ ولن يقبل العودة إلى الماضي، والى كوباني رسالة إقليمية ودولية لاقت الاهتمام وخطفت الأنظار، رسالة في حدها الأعلى عناوين واضحة من الدعم والإسناد والتسليح والتدريب، وفي حدها الأدنى رضى وتقبّل لحالة كردية تتبلور فوق قاعدة من المطالب والتطلعات القومية، وقرب كوباني رسالة تركية تتبنى تَرك الكُرد وداعش ينحرون بعضهم بعضاً، فلا بقاء الأسد مُستساغٌ تركياً، ولا تمدّد داعش مقبول تركياً، ولا انتصار الكرد ولمعان بريقهم مسموح به تركياً، وبالتالي فلتبق العيون التركية تراقب وتمعن النظر ليس بعيداً عن حدودها، ولتبق اليد التركية تفتح باباً إنسانيا لاستقبال النازحين، بينما اليد الأخرى تلوّح وتقبض على مطرقة ثقيلة. أما الرسالة العراقية والسورية إلى كوباني فهي أن لكوباني وغيرها ربٌّا يحميها، فحدود الدول مقطّعة ومكسّرة، ومصائرها قد أضحت بغير أيدي ساستها، وقدراتها ومقدّراتها قد ضعفت ما دون الضعف، أما السيادة والاستقلال فهي بلا شك مسألة فيها وجهة نظر.
قد يسيطر داعش على كوباني، فيصيب الحلم القومي الكردي بانتكاسة مؤلمة، فيكتسب هذا التنظيم نصراً رمزياً يمدّه بمزيدٍ من عناصر القوة والنفوذ، مفاده أن التحالف بضرباته الجوية وأن الكُرد بحربهم لن يغيروا واقع الأرض وحالها، وقد يندحر داعش عملياً أو تكتيكياً، مخلّفاً مدينة عربية سورية مدمرة وخالية، خالية إلا من حلم كرديّ قد يتحقق يوماً، وهو حلم تقرير المصير وبناء الدولة الكردية الموعودة.
م. زيد عيسى العتوم