عند الحديث عن مدينة بيروت وعمارتها، غالباً ما تركّز الاهتمام على مشهدين، يتعلّق الأول بالحرب الأهلية، فقد أدّت الأحداث التي استمرّت لقرابة عقد ونيف إلى هدم أجزاء عديدة منها، إذ لاحظ المعماري اللبناني جاد تابت، أنّ الحدود التي كانت تفصل المدينة عن اللامدينة، اضمحلّت على امتداد الحرب الطويلة، وصارت لبيروت أبواب جديدة بحسب تنقّلات الجبهات المتعددة. أمّا المشهد الثاني، فقد تركّز على صورة المدينة بعيد بدء مشاريع إعادة الإعمار، وبالأخص مشروع إعمار وسط المدينة، الذي عكس حالة جديدة من التخطيط الحضري. غالباً ما خضعت هذه المشاريع في الماضي لإدارة وتنظيم مدنيين، استندا إلى التبادلات بين الطوائف، إلا أنّه بعد الحرب، وفي ظلّ غياب الدولة أو ضعفها، خضعت إلى معادلات القوة، وزعماء مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، وبالأخص شركات مثل السوليدير، التي أدارها رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، والتي شرعت في إعادة تحديث وسط البلد التاريخي، أو تخريبه، وفقاً لبعض المعماريين اللبنانيين.
بيد أنّ هذا التقسيم لمشهد بيروت العمراني، قبل وبعد الحرب، شهد في السنوات الأخيرة مراجعات عديدة من قبل الباحثين في تاريخ عمارة المدينة، إذ لاحظ عدد منهم أنّ هذه الصورة الثنائية (بيروت كمدينة حرب/ وبيروت بعد إعادة إعمارها) غير دقيقة ومختزلة، فمن جانب، تتناسى أنّ المدينة واجهت في غير مرّة، وعلى مرّ الزمن تجربة إعادة الإعمار، ليس في فترات الحرب فقط، وإنّما على أيدي العثمانيين أيضاً، ثم مع محاولات التحديث الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، وحتى أثناء الحرب، ومن جانب آخر، أهمَلت لاحقاً هذه الثنائية، فكرة أننا لم نكن أمام رؤية واحدة لإعادة الإعمار، بل أمام عددٍ من المشاريع التي تغيّرت جراء تغيّر ظروف الحرب والقتال.
مع قدوم الفرنسيين، حاول المهندسون الفرنسيون أن يزرعوا في وسط بيروت التاريخي ساحةً وشوارع شعاعية مستقيمة سمّوها ساحة النجمة، وأرادوا أن تحاكي ساحة النجمة الباريسية، فهدموا معظم النسيج المبني التقليدي.
ولعلّ من الكتب الجديدة التي ترسم لنا صورة أو جزءاً من ذاكرة بيروت العمرانية قبل الحرب، كتاب المعماري اللبناني رهيف فياض «نبض المدينة» دار الفارابي. إذ نعثر في ذاكرة فياض على صور ومشاهد لكيفية تطوّر بيوت المدينة، وأرصفتها ولاحقاً أشكال شوارعها بعيد الحرب، ما أدّى إلى تحوّلها، كما يرى، لمدينةٍ ممزّقةٍ، لا بسبب نتائج الحرب، واتّفاق الطائف وحسب، بل جراء مشاريع إعادة الإعمار.
بيروت القرية
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت بيروت بلدة صغيرة، لا تتعدّى مساحتها 15 هكتارا، وعدد سكانها يقارب الـ4000. كانت مدينة ثانوية على ساحل ممتد، مدنه الكبيرة صيدا وعكا، لكن مع بداية أربعينيات القرن التاسع عشر، ستشهد تحولاً عمرانياً واجتماعياً، إذ أخذت البواخر التي تعمل على البخار تصل إلى جوار مرفأ بيروت، لتبدأ عليها أولى معالم الانتعاش، مع ولادة نخب تجارية محلية ووصول سماسرة وتجار أوروبيون إليها.
مع قدوم الحرب الأهلية في بيروت 1860، شهدت توسّعاً، بسبب النزوح الكثيف من جبل لبنان وزحلة ودمشق وحلب إليها، كما ستشهد المدينة تحوّلاً عمرانياً جراء القرارات التنظيمية العثمانية. كان زقاق البلاط آنذاك، قد تحوّل إلى مركز للعائلات المحليّة والقناصل، كما ستعرف المدينة الجديدة بروز مهندسي عمارة محليين أمثال، بشارة المهندس، واسمه الحقيقي مانوك مانوكيان، الذي صمّم الحديقة العامة وسط ساحة البرج على النمط التركي، وسُمِّيت الحديقة الحميدية. وفي هذا الإطار، نشأ البيت البيروتي، قبل أن ينتشر في كلّ المدن الساحلية اللبنانية. وقد تميّز، كما يذكر فياض، بفناء داخلي تفتح عليه الدار المنغلقة على ذاتها، فيصبح الفناء هو الموزّع، ومع تطوّر الحاجات تمكّن البناؤون من سقفه ليتحوّل إلى ليوان وسطي تحوطه الغرف من جانبيه. وأصبح هذا الليوان الوسطي موزعاً ومكاناً للقاء الأسرة.
بيروت الكولونيالية
مع قدوم الفرنسيين، حاول المهندسون الفرنسيون أن يزرعوا في وسط بيروت التاريخي ساحةً وشوارع شعاعية مستقيمة سمّوها ساحة النجمة، وأرادوا أن تحاكي ساحة النجمة الباريسية، فهدموا معظم النسيج المبني التقليدي. وجاء هذه المرة التطوّر الجديد على صعيد العمارة نتيجة استعمالِ مادة حديثة في البنيان وفي الكثير من تفاصيله وزخارفه، وهي الخرسانة المسلّحة أو الباطون المسلّح. لعبت هذه المادة دوراً حاسماً في تشييد المباني ذات الطوابق المتعددة، إذ سكنت الشرائح المُشار إليها من البورجوازية التجارية في شققٍ بعضها فوق البعضِ الآخر، والتحقت كلّياً بالنمط الغربي اجتماعياً وثقافياً. تميّزت البيوتُ بشرفاتٍ واسعة، محمولة على أعمدة ومسقوفة ومتكررة في كل طوابق البناء، وسُمِّيت بالمباني ذات الفرندا، كما تميزت برغبة سكانها بإظهار مدى ثرائهم، من خلال واجهات منازلهم ونوافذها التي باتت تطلُّ على الشارع، رغم هذه التحولات، بقيت البيوت الجيدة تمثّل حالة من الاستمرارية والتواصل مع البيوت العثمانية، فشكل المنزلِ من الداخل ظلّ يُشبه المنازل البيروتية التقليدية، إذ تكّون من ليوانٍ فسيح، كما بقي المطبخ يقبعُ في زاوية المنزل.
أما في فترة الاستقلال، وبالأخص بعد حرب 1948 التي أغلقت باب التجارة بين حيفا والمدن العربية، أخذ مرفأ بيروت يتعزّز دوره ليصبح المرفأ الرئيس لساحل المتوسط، لكن التطور على صعيد المدينة لن يقتصر على هذا الجانب، إذ ستشهدُ في منتصفِ الخمسينيات والستينيات، كما يروي لنا أمين معلوف، نزوحَ وتدفّقَ هاربين ورجال أعمال وسياسيين من سوريا وفلسطين، لتتحوّل إلى مركز تجمّعٍ جديدٍ في المنطقة؛ أصبحت بيروت الستينيات مركزاً سياحياً، ما زاد الطلب على اقتصادِ الخدمات وعلى المنازل والبيوت.
مما يذكره فياض عن هذه المرحلة التي عاشها، أنّ رؤيةً عمرانية جديدة أخذت بالظهور، لتزيح الطراز الكولونيالي بكلّ تنوّعاته؛ سُمِّيت هذه العمارة باسم عمارة الطرز الدولي، التي عُرِّفت في معرض نيويورك للعمارة الحديثة، وضمّت أعمال المعماريين روّاد الحداثة خلال عقد من عام 1922 حتى عام 1932. كبرت المدينة واحتكرت كل شيء، وأخذت المباني المكتظّة تزداد ارتفاعاً كلّ يوم. مبان ملوثة، معدّة لسكن الزاحفين إلى المدينة بحثاً عن حياة لائقة. إلا أنها حافظت على علاقتها بالبحر عبر منطقةٍ امتدّت من السمرلاند حتّى المرفأ وعبر شاطئ رملي امتدّ من الأوزاعي حتى حدود خلده، كما بقي البحرُ في متناولِ الساكنين.
لا يخفي فياض لوعته، وهو يتذكّر شكلَ المدينةِ وبيوتها وأرصفتها آنذاك، حيث كان الناسُ يسيرون على الأرصفةِ لتوصلهم إلى الساحات والحدائق، وإلى بواباتِ بيوتهم، كما كانت الأرصفة مجالاً يلتقي فيه الناس ويتسامرون. لن يحدثنا فياض عن فترة الحرب وما عرفته من تغيّرات عمرانية، حيث بقيت هذه الفترة من الفترات التي لم يشفي غليلنا لفهمها، بينما نعيشُ اليومَ مشاهدَ دمارٍ وحروبٍ في مدنٍ قريبةٍ من هذه المدينة، إذ سيُخصّص المؤلّفُ باقي كتابه للحديث عن صورةِ بيروت وبيوتها مع بدءِ ورشة الإعمار عام 1992، التي أدّت إلى حدوث تغيراتٍ كبيرة.
كانت الأمور تتغير، فقد اشتدّ شعارُ الإعمار، وانتشر البنيانُ بلا ضوابط، فتمدّدت المدينةُ على الساحلِ بكامله، وجاءت العمارات الأفقية العالية، لتنهي بدورها القدرةَ على رؤيةِ حدود المدينة، لم نعد نرى سوى شبكات واتوسترادات وجسور. باتت المدينةُ عبارةً عن مطارٍ ومرفأ وأنفاق عبور، سطوح متتابعة، ممتدّة بلا حدودٍ، تسكنها الصحونُ اللاقطة. حتّى الحدائق أخذت تتلاشى، فإذا استثنينا اليوم حرج بيروت وحديقة محلة الصنائع، فإننا لا نجد في بيروت حدائق عامة ذات تأثير في محيطها.
بيروت الممزّقة
يرى البعضُ أنّ بيروت اليوم هي مدينة مفتّتة، ويعودُ ذلك إلى التناحرِ الطائفي بين أهلها. بيد أنّ فياض لا يرى أنّ هذا التفتّت ناجم عن أبعادٍ طائفيةٍ، بل تولّد بالأساسِ من مشاريع تنظيم المدينة بعيد الحرب، التي ساهمت في تمزيقها، بدل إعادة تقميش نسيجها العمراني والاجتماعي. فالمتجوّل فيها بسيارته، تصدمه الأوتسترادات التي تخترق المدينة، بينما لا مكان واسع للمشاة، ومع مشاريع الإعمار وبالأخص مشروع السوليدير، والذي يحمّله فياض مسؤولية تحطيم ذاكرتها العمرانية بدلَ مقاومةِ الرؤية المركزية العمرانية الغربية، أصبحت بيروت الجديدة بلا مركزٍ وبلا قلبٍ؛ وغدت مجموعةَ أحياءٍ مقطعةَ الأوصالِ، تفصلها الأوتسترادات قبل أسوارِ الطوائفِ.
كان المبرّر الرئيس لمخطط عام 1977 هو الحاجة الملحّة إلى العودة بالمدينة لفترة ما قبل الحرب، وإعادة إحياء صورة الدولة الموحّدة والمدينة المتوسطية المكرّسة للتجارة.
ذاكرةُ إعادةِ الإعمار.. نسيانٌ أم تناس
وبالعودة لما ذكرناه في البداية، فإنّ بعض الباحثين للتاريخ العمراني للمدينة، رفضوا في السنوات الأخيرة فكرة الحديث عن مشروعٍ واحدٍ لإعادة الإعمار، واقترحوا عوضاً عن ذلك متابعة تاريخٍ آخر لمشاريع بقيت تحوم في مخيّلة سياسي المدينة، خلال الحرب؛ ما يعني أنّ مشروعَ إعادة الإعمار لم يكن جراء سياسات رجلٍ واحدٍ (رفيق الحريري) كما تحاول بعض الأطراف القول، بل عبارة عن تراكمِ عددٍ من المخطّطات، وولادة إطارٍ سياسي اجتماعي آخر، أعادت الحربُ تشكيلَه، بالإضافة لعودة المهجرين. ولعلّ ما يُسجّل على كتاب فياض، غياب هذه الرؤية، أو الخلفية عند حديثه عن مشروعِ إعادة الإعمار، فسنوات الحرب ومشاريع إعادة الإعمار لا ذكر لها في الكتاب، وإنّما نعثر على ذاكرتين فقط؛ الأولى قبل الحرب، والثانية لاحقاً مع مشاريع سوليدير، التي يُحمِّلها مسؤوليةَ قتلِ الذاكرة الجماعية للمدينة. وربّما إغفال المؤلّف لهذه الفترة، ناجم عن أنّ كتابه ليس عن ذاكرة المدينة العمرانيّة وحسب، بل جاء كدعوةٍ لتأسيس «العمارة المقاومة»، وهي دعوةٌ تحاولُ القولَ بضرورة عودة النظرِ في أشكال بيوتنا وأحيائنا، لتتلاءمَ مع واقعنا المحلي، ومع بعض التجارب المحلية الأخرى (رفعة جادرجي في العراق، أو بعض التجارب الأخرى في المكسيك واليابان)، بدلاً من أن نستنسخَ نماذجَ المدن الغربية الصناعية، ولعلّ هذا الهدف جعل الكتاب في بعض صفحاته، كتاباً متخصصاً بعض الشيء (ذكر تفاصيل معمارية وهندسية)، وقد يصعبُ على القارئ العادي فهمها، خاصةً أنّ طريقة إخراجه، وغياب مخطّطاتٍ وصورٍ توضيحية، صعّبت من المهمة، بيد أنّ هذا الاغفال لفترة الحرب ومخططات الإعمار خلالها، أظهر الكتاب وكأنّه يحاول تحميل طرف معين مسؤولية ما حدث، وهذا كما ذكرنا اختصارٌ لذاكرة إعمار المدينة. وربما لتوضيح أو تبيان طبقات ذاكرة إعادة الإعمار، يمكن الاستعانة هنا بدراسة الباحثَين جو نصر/المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، والفرنسي أريد فرداي حول «إعمار بيروت»، إذ وجدا أنّ الكثيرَ من مشاريعِ إعادة الإعمار، عكّست أجندات قديمة تولّدت خلال الحرب، ولذلك فإنّ فهمها يتطلّبُ النظرَ في مخططات إعادة الإعمار خلال فترة 1975 إلى 1989. ففي نهاية حرب السنتين 1975 و1977، عيّن الرئيسُ إلياس سركيس عالمَ الاقتصاد سليم الحص رئيساً للوزراء، وقد أشرفت الحكومةُ على وضعِ خطط إعمار وسط بيروت، وكان مقترحها يومذاك إعادة صورة المدينة المتوسطيّة، من خلال ترميمِ الأسواق وفتح المدينة على المرفأ، كما تضمّن وضعّ حدٍّ لارتفاع البنايات واتجاهاً مغايراً لمفهوم العمارة العالمية.
كان المبرّر الرئيس لمخطط عام 1977 هو الحاجة الملحّة إلى العودة بالمدينة لفترة ما قبل الحرب، وإعادة إحياء صورة الدولة الموحّدة والمدينة المتوسطية المكرّسة للتجارة. بيد أنّ فشل ترتيبات السلم وعودةَ القتالِ في وسط المدينة حالَ دون تطبيق المشروعِ؛ لاحقاً، عاد التفكيرُ في الإعمارِ بعد عام 1982، إثر الاحتلالِ الإسرائيلي، حين تولّى على التوالي بشير الجميل وأمين الجميل الحكمَ، وقد اقترح الأخيرُ مشروعاً إعمارياً جديداً لطمرِ البحر على الشاطئ الشمالي للتجمّعات السكانية، ومخططاً رئيسياً لمنطقةٍ أو مدينة جديدة.
وكان مستشاره لهذه الخطط المعهد الفرنسي لتنظيم وتخطيط المدن لمنطقة ضواحي باريس. وفي النتيجة، غدت خططُ إعادة الإعمار أكثر تطرّفاً، فقد دعت إلى عمارةٍ حديثة ذات وظائف تجارية وسياحـــية، وعلى حساب حفظ التراث وملاك الأراضي القــــدامى، وقد حصل هذا الأمر في منطقة المتن، مسقط رأس أمين الجميل، إذ تحوّلت من منطقة صناعية إلى سكنــــية، ولم يكن ذلك ليجري لولا هرب المسيحيين من غـــرب بيروت؛ أما بعد الحرب، فقد اختلف المشهدُ واختفت وجوه مثل الرئيس أمين الجميل، وفي المقابل ظهرت شخصياتٌ أخرى، كما ترافقت هذه الفترة بتعزيز النمط الاستهلاكي لحياة الفردِ في لبنان وبيروت بالأخص، ونتيجة التحوّل في الإطار السياسي والاجتماعي والذوقي، حدثت تغييرات جوهرية في بنية الاختصاصيين المسؤوليين عن إعادةِ الإعمار.
فالمهاجرون العائدون، والمعماريون الشباب المتدرِّبون في الغرب، هم الذين صمموا أو أخذوا على عاتقهم معظم مشاريع إعادة الإعمار، وبالتالي فإن السنوات الاثنتي عشرة لإعادة الإعمار، لا تمثّل فصلاً واحداً كما حاول رهيف فياض قوله، بل جاءت كنتاجٍ للسياق العام الذي جرى انتهاجه في معالجةِ أوضاعِ المدينة والبلاد. لكن رغم هذه الجزئية الغائبة في كتاب فياض، إلّا أنّه يبقى من الكتب الجيدة في سياق الإلمامِ بالذاكرةِ العمرانيةِ لمدينةٍ عربيةٍ، عله يُحَفِّز على مزيدٍ من تثوير الذاكرة العمرانية لعددٍ من المدنِ الأخرى، والتي اجتاحها البرابرُة، قبل أن يهدموا ما تبقّى من أحيائها وأسواقها وحتى شواهدَ قبورها.
٭ كاتب من سوريا
كانت مديني بيروت هي الأنثى الفاتنة الوحيدة بين عواصم العرب وها هي الآن عانس كسائر العوانس