قبل نحو 3100 سنة، في منتصف العهد البرونزي، استوطن الناس فوق تلة غير مرتفعة وغير متميزة في جبل يهودا. وقد تحولت هذه التلة بعد ذلك إلى مدينة داود ومن ثم إلى القدس. بالنسبة لتلال أخرى في المحيط، كانت هذه التلة منخفضة وغير مهمة استراتيجياً، بعيدة عن أي طريق أو ميناء أو كنز من كنوز الطبيعة. لماذا هناك تحديداً؟ الجواب موجود على سفح التلة، في المكان الذي ينبع منه نبع جيحون. “لو لم يكن نبع جيحون لما كانت القدس”، قال البروفيسور روني رايخ، عالم الآثار الذي حفر تلة مدينة داود في العقود الأخيرة.
جيحون هو النبع الأكبر في منطقة جبال يهودا، وتدفق مياهه ثابت طوال السنة. وخلال آلاف السنين رافق القدس كمصدر للحياة. وفي المقابل، فإن حاجة الدفاع عنه شكلت حصون المدينة القديمة، وبعد ذلك تحول إلى مكان مقدس. كل ذلك حوله إلى أحد الينابيع المشهورة جداً في تاريخ البشرية، وأدى إلى وضعه الحالي كموقع للسياحة في قلب سلوان، حيث تديره جمعية العاد. والآن يحوم حول هذا النبع الاستثنائي التهديد الأكبر في تاريخنا. التقرير الذي ينشر هنا للمرة الأولى يكشف الخطر الذي يحدق تدفق المياه باستمرار. إذا خرج إلى حيز التنفيذ مخطط إقامة القطار الثقيل التحت أرضي في محيط البلدة القديمة.
سلطة الطبيعة والحدائق طلبت هذا التقرير من البروفيسورين عاموس برونكن ورونيت عمئيل، وهما باحثان في معهد أبحاث الكهوف في الجامعة العبرية. وحسب تقديرهما، فإن الأنابيب الصخرية الطبيعية التي تضخ المياه إلى النبع تصل من عدة اتجاهات وتلتقي في البلدة القديمة وتلة مدينة داود. لذلك، فإن حفر نفق القطار في منطقة هذه القنوات التي تسمى أنابيب قشرية يعد أمراً خطراً. “جيحون يتأثر بشكل كبير من أفعال الإنسان، ويمكن أن يتضرر أكثر من النفق المستقبلي”، كتب في التقرير. “هذا النفق، وباحتمال عال، سيقطع مسارات التدفق القشرية، لا سيما إذا نفذ تحت البلدة القديمة، وجبل صهيون ومدينة داود. في هذه الحالة فإن النفق قد يضر تدفق مياه النبع، وفي أقصى الحالات يقطعه تماماً عن مصادر مياهه”.
حالة مشابهة حدثت أثناء حفر نفق الأمة بغرض إقامة سكة القطار الجديد من تل أبيب. على مدخل القدس، بعمق 80 متراً، أضر النفق بشبكة قشرية وأوجد نبعاً جديداً تحت الأرض، انجرفت مياهه من نبع لفتا.
الباحثون يفسرون بأن احتمالية العثور مسبقاً على الأنابيب القشرية وعدم قطعها بسبب النفق، ضئيلة. وإذا تقرر حفر النفق، قال الخبراء إن الأمر سيحتاج إلى إجراء تخطيط جيولوجي دقيق، وفي حالة العثور على قنوات قشرية ستكون حاجة إلى إيجاد حل هندسي لاستمرار تدفق المياه. “يجب حفر أنفاق فقط في حالات ضرورية”، كتب في استنتاجات التقرير. “والامتناع عن حفر الأنفاق تحت البلدة القديمة وجبل صهيون ومدينة داود بسبب وجود احتمال عال جداً لقطع الأنابيب القشرية التي تؤدي إلى نبع جيحون في هذه المنطقة”.
“حسب رأيي، هناك خطر كبير”، قال البروفيسور فرونكين، “مياه النبع تأتي من الاتجاه الذي ينوون بناء محطة القطار فيه. ويجب التذكر أن هذه المحطة بعمق 80 متراً، وتشمل فراغات كثيرة تصل إلى سطح الأرض”.
ومثلما نشر في “هآرتس”، فإن الجهات المهنية في إدارة التخطيط ووزارة المواصلات لم تصادق في البداية على خطة القطار الثقيل الذي يوصل إلى حائط المبكى. ولكن في أعقاب ضغط من قبل وزير المواصلات سموتريتش تم إعادة المخطط لنقاش إضافي.
خطأ تاريخي
نبع جيحون يتوجه نحو الشرق. في الصباح الباكر تضيء أشعة الشمس موقع النبع. وحسب أقوال البروفيسور رايخ، هذه الحقيقة لم تغب عن أعين سكان القدس القدامى، لذلك سموه “عين الشمس”. “جيحون”، حسب قوله هو خطأ تاريخي متواصل: “هذا الاسم ذكر في كتاب الملوك على اعتبار أنه المكان الذي نزل فيه الملك سليمان كي يتم تعميده كملك. ولكن ليس واضحاً في النص إذا ما كان جيحون هو نبع على الإطلاق. حسب أقوال رايخ، جيحون هو اللقب الذي أعطي لشبكة المياه الكبيرة التي أقامها اليبوسيون في القدس، والدليل على ذلك هو أن التوراة ذكرت ثلاثة ينابيع في القدس: عين شيمش، وعين روغل، وعين تنين.وجيحون ذكر كموقع وليس كنبع. عين شيمش في المقابل ذكرت في التوراة كعلامة على الحدود التي تقع بين سبط يهودا وبنيامين في شمال عين روغل (التي هي الآن في وسط سلوان) ووادي بن هينوم. ولأن اسم جيحون ترسخ، اضطر الباحثون إلى العثور على نبع آخر وإعطائه اسم عين شيمش. هذا الاسم أعطي لنبع صغير في العيزرية في شرقي القدس. ولكن هذا المكان، حسب رايخ، لا يناسب الوصف الذي في التوراة.
ومهما كان الأمر، فإن جيحون في زمننا (“عين أم الدرج” حسب المسلمين، أو “عين العذراء” حسب المسيحيين) هو النبع الذي يتدفق بشكل استثنائي يبلغ 600 ألف كوب مياه في السنة. التدفق الأكثر من بين ينابيع المنطقة. وللمقارنة، فإن نبع لفتا في غربي القدس يضخ 125 ألف كوب مياه في السنة. وإلى جانب الغزارة، اضطر سكان القدس القدماء إلى مواجهة خلل ظاهر في النبع وهو موقعه المنخفض، قرب وادي قدرون الذي صعب الدفاع عنه. وحسب رواية أخرى، اليبوسيون، مؤسسو القدس، أقاموا قبل نحو أربعة آلاف سنة تحصينات ضخمة حول النبع، وما زالت قائمة حتى الآن. ولكن في السنوات الأخيرة، بدأ علماء الآثار بالتشكيك بهذا الاعتقاد. والآن يقول عدد منهم بأن هذه التحصينات لم تقم في عهد الكنعانيين، بل بعد ذلك بألف سنة على أيدي ملوك يهودا.
في القرن الثامن قبل الميلاد، أمر الملك حزقياهو ببناء نفق شيلوح الذي استهدف نقل المياه إلى مكان آمن يسهل الدفاع عنه عند حدوث حصار للمدينة. التراث والأثريون يؤيدون هذه الرواية. خلال مئات السنين ضلل هذا النفق سكان القدس الذين اعتقدوا أن المنبع الحقيقي يوجد في نهاية النفق وليس في النبع الذي تم اكتشافه مجدداً فقط في العصور الوسطى للعهد المملوكي.
في العشرين سنة الأخيرة، وبرعاية سلطة الآثار وجمعية العاد، تطور البحث حول النبع والآثار التي قربه بشكل كبير. ولكن مصادر مياهه بقيت لغزاً. هذا اللغز تم حله نتيجة حدث مؤسف: في عيد الأسابيع في 2002 بدأت مياه المجاري تتدفق فجأة من النبع. بلدية القدس وشركة جيحون، شركة المياه والمجاري في القدس، بدأتا في البحث عن مصدر التلوث. وقد عثر في البلدة القديمة عن عدة تسربات صغيرة تم إغلاقها، ولكن هذا الأمر لم يؤد إلى تحسن مياه النبع. وفي نهاية المطاف تبين أنه في أعمال الإصلاحات في الطرف الثاني في المدينة، في شارع السلطان سليمان، تم تحطم أنبوب كبير للمجاري. وبعد أسبوع من إصلاحه بدأت مياه النبع تصفو. وبعد شهر تدفقت مياه النبع كالسابق. بفضل هذه الحادثة اكتشف الباحثون بأن الحجم الأدنى لحوض تدفق مياه النبع يشمل البلدة القديمة وخارجها.
في موازاة اكتشاف الخطر الذي قد يحدث بسبب إقامة القطار، فإن التقرير الحالي يظهر أيضاً تميز نبع جيحون وحوض تدفقه الضخم إلى جانب تحليل شبكة المياه تحت القدس. وضمن أمور أخرى، أجرى الباحثون من أجل التقرير الجديد مسحا جيولوجياً وفحصاً كيميائياً وبيولوجياً للمياه لاكتشاف كل منطقة جمع مياه نبع جيحون. البروفيسوران فرومان وعمئيل توصلا إلى استنتاج بأن المنطقة التي ينبع منها النبع تمتد على مساحة 10.6 كم مربع. وأن المياه تتدفق إلى جيحون من خلال شبكة تحت الأرض تبعد أكثر من 4 كم عن النبع. وفي داخل منطقة تدفق النبع توجد البلدة القديمة والأحياء التي تقع شمالها حتى تلة الذخيرة، أيضاً الأحياء التي توجد غرب البلدة القديمة حتى جفعات رام وجسر السلسلة.
وقد ظهر في التقرير أن مياه الأمطار تتسرب وتسير تحت المدينة خلال بضعة أسابيع من خلال شبكة أنابيب قشرية طبيعية إلى أن تخرج في جيحون. ومن أجل توضيح ذلك، فإن الأمطار التي تهطل في منطقة الكنيست أو في منطقة جسر السلسلة يمكن أن تتدفق في النبع الموجود في سلوان بعد بضعة أسابيع.
بقلم: نير حسون
هآرتس 8/3/2020