1
لأرغن الكنيسة، كثافة تصقل الروح وتسحق عظمة القلب. موسيقى تغمرك بما يشبه الغيمة التائهة، وما عليك إلا أن تصغي لوقع رنين ذلك الأرغن، فتشعر بأن ثمة من ينقلك، رشيقاً، إلى صراط الجحيم والجنة، بلا أجنحة ولا ريش.
ثمة عربات تطير بك مقطورة بأكثر الوعول جمالاً وهيبة، وعول من عسل وزمهرير، برودة الوطن القديم في خشب المقاعد تحلق بك فوق ثلج الغابات، مخترقة غيوم تتراكم بفعل العشق الهاطل من اثنين يتزوجان في بحيرة من نغم النحاس المتصاعد في كائنات الصدى، ذلك حفل الحب.
2
يفد الناس أفراداً، يصطفون بجانب الشموع المتوقدة. يضيفون شموعاً تشعّ، ويرتلون الدعوات لعل الحب يحل مكان الأديان، وينهض القوم من موتهم، لا يموتون ولا يحيون. حضور الحفل يشهدون على زهرة الحب، وينتخبون نببذاً يسعد القلب. ثمة صلاة تنشأ في حفل.
3
صلوات بلا خشية ولا تضرع. الله يحضن الجموع ويوزع في الناس المحبة. الله باب المحبة، ليس حكراً على أحد، ولا محكوراً في مسجد ولا كنيسة. تختلط عليك الصلاة بالزواج. هل التهدّج نشيد الروح، هل الدخول المرح في الحياة زواج يكتمل ولا يخذل، هل أنت الباب أم الدخول؟
ليس ثمة أجوبة، في الكنيسة لا تعرف شيئاً جديداً، كلما سألتّ، تجلتْ لك المعرفة.
4
نتهجى الصلاة مثل أطفال يتعلمون اللغة، ويتدربون على الكلام. كلام الأطفال أبجدية الخلق. كلما أصغيت لأرغن الكنيسة إنما أنت تصغي للأطفال وهم يتخلّقون، ويخلقون الكون من حولنا. الله في الأطفال أكثر مما في الكبار. دع الأطفال يقودون خطواتك، إن كنتَ في زواج أو صلاة أو نشيد. الكنيسة ملعبك الذهبي لتلهو.
5
عندما تكون في زيارة مدينة «كولون» الألمانية، يتسنى لك الحضور البهي في «كنيسة الدوم» العظيمة. وزيارة الكنيسة ليست محصورة في صلاة، ولا ذريعة ولا ابتهال. إنما هو ضرب من اكتشاف الروح الشفيف الذي يصل الإنسان بالغيب الغامض الغريب. غيبٌ لا تنتظره ولا تنتظر منه وليس له سلطة عليك. الغيب في الكنيسة صلاة مستحبة. يشفّ فيها الكائن حتى ليكاد زجاج الكنيسة يصير زهر الشطرنج وهو يتعداك، يخترقك ويفتك بالحجب التي تمنع الله عنك.
6
أما في «كنيسة الحرب»، مثلاً، وأنت في نهاية شارع كودم، في «برلين» الحانية، يجوز لك الزعم أن الحرب ليست من الماضي وحسب، لكنها حربٌ لا تزال ماثلة لئلا ننسى، حيث لم يكن للكنيسة ربٌ يحميها من قصف طائرات الحرب العالمية التي أتت على مدنٍ برمتها.، غير أن بقية من ثلث الكنيسة ببرجها الشاهق، تبقى. لم يكن للكنيسة ربٌ يحميها. ليس ثمة ربٌ يحمي أحداً، إن لم يبادر بحماية نفسه. تلك هي الحقيقة التي لا يجوز التلاعب بها، أو اختزالها بما يخلّ بالدلالة.
7
يبقى لنا العودة لصوت الأرغن الذي فتح لنا جوارح الذكريات والتداعي الهرطوقي. الأرغن نفسه، الذي لا يتم ترتيل في كنيسة بدونه، لماذا لا يخرج من الكنيسة إلى بيوت الله الأخرى؟ ترى لماذا تظل فكرة إشعال شمعة في كنيسة، لإنارة مستقبل الأحباء وإنارة الطريق لروح الموتى، فكرة منقوصة تستدعي النيران التي يستعصي على جيوش الضغائن إطفاؤها؟
8
لا نريد للموسيقى أن تبتعد عنا، فلا يزال الأرغن الأرعن يعصف بِنَا شلواً شلواً. التمثال الذهبي للمسيح يفرش ذراعيه مصلوباً في قاعة كنيسة الحرب، والحرب لا تزال، والمصلون يصطفون في طابور المناولة، والأطفال يهرعون متسارعين لئلا تفوتهم الفرجة على جسد المسيح تقرضه أسنان المصلين من أصابع القس. لا نريد تفادي الموسيقى، إنها إكسير وقتنا النادر في حضرة الصلاة. على ألا تصلي رجاةَ النجاة من جهنم، أو رغبةً في جنة الفردوس، ففي ذلك تذلل ونفاقٌ وخشية وخوف ويليق تعويق المحبة بها. الشغف بلا ذريعة هو الصلاة. والموسيقى هي الصلاة بدون أن تكون نشيداً دينياً أو ترتيلاً كنائسياً ولا استعادات الأحزان.
9
تلك الأجراس النحاسية الضخمة، أيضاً، مثلما للفرح، يمكن أن تصنع للحروب قذائف، كما في ذلك الفيلم الذي لم يكترث بالكنيسة إلا بوصفها شريكاً فاعلاً في الدفاع عن الناس. ليس بوصف الكنيسة ديناً، لكن باعتبارها المادي في الحياة. خصوصاً عندما تكفّ السلطة عن الاكتراث بحماية الناس من القصف، حيث يتوجب على الإنسان المبادرة بحماية نفسه. بنحاس الكنائس وأحجار المساجد.
يتحتم علينا، خلال كل ذلك، ألا نبتعد، أو نضل الطريق، عن الموسيقى، فالأرغن العميق يحفر في أعماقنا، مثلما العلم في الصغر كالحفر في الحجر. وربما نستطيع حماية الموسيقى من الموت، من النسيان. رجاةَ ألا ننسى..
٭ شاعر بحريني