(أمواج) عبد الله إبراهيم وسيمياء العنوان

نتوقف عند (عنوان) السيرة الذاتية للكاتب العراقي عبد الله إبراهيم الموسومة بـ»أمواج» التي صدرت عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر بطبعتها الأولى 2017 قطر، كي تسبر ما تخفي من سيمياء يقبع خلف العنوان، وهي تدرك أن الكشف عن طاقات العنوان الكامنة، ومخزونها الفاعل يتمّ من خلال الاحتكام إلى فكّ التعالق بين الدوال والمداليل، من دون أن تنسى أنّ «أمواج» (علامة) ذات مرجعيّات مختلفة تتعلّق بممارسات حياتيّة خارج نص السيرة، يتمّ نقلها عن عمد إلى داخلها، كي تتيح للمتلقي الكشف عن تحولات الذات الساردة مع تتابع الأحداث بالإحالة على مقدار انشغالاتها.
ينفتح العنوان – أي عنوان- سيميائيّا على تشكيل لغويّ، يحيل على جملة مفهومة، أو لفظ له إيقاع دلالي واضح، وعنوان سيرة عبد الله إبراهيم من النوع الثاني «أمواج»، فقد اكتفى بلفظ واحد يحيل النظر إلى المَوْج، الذي قدّمه المعجم العربي على أنّه: ما ارتفع من الماء فوق الماء، فهي مجموعة أمواج زمنيّة تجري في نهر الحياة الذي حمل الطفل (إبراهيم) إلى شواطئ الحياة، ثمّ قذف به في مجهولها، لكن السؤال ينعقد الآن في صيغة: من أين جاء لفظ أمواج إلى السيرة؟ أو إلى مؤلّفها، وقد عاش طفولته، وسنوات غير قليلة من شبابه بعيدا عن الماء؟، فهو ابن كركوك المدينة العراقيّة التي ليس لها نهر دائم الجريان، ولا بحر، ولا خليج، هل جاء من مرحلة الدراسة القصيرة في جامعة البصرة، جوار مياه الخليج العربي، أو من مرحلة السكن في بغداد والعمل الأكاديمي جوار دجلة؟
يمكن القول إن أمواج عبد الله إبراهيم تسربت إلى عنوان سيرته، من مرحلة ما بعد الخروج من العراق، ففي ليبيا مثلا، التي عمل فيها أستاذا في جامعة الزاوية، كما تخبرنا سيرته، استأجر بيتا كبيرا فيها لكنّه كان كثيرا ما يعاشر البحر، فضلا عن أنه في عام 1998 كان يسبح في البحر المتوسط على شاطئ مدينة (زوارة) أي أنه عشق البحر، وفي تونس كان يحلو له أن يصف مدينة سوسة والشمس تغطس في البحر عند الغروب، بأجلّ النعوت التي صنعها جمال البحر، وحين قدّر له أن يعيش في قطر، فإن سكنه لم يكن بعيدا عن الخليج، ولعبد الله إبراهيم أن يعشق إسطنبول، وهي مدينة تفتح جناحيها على البحر فهي مدينة مياه وأمواج أيضا، هذا غيض من فيض مائيّ، لاحق حياة عبد الله إبراهيم في مرحلة من سيرة ما بعد بغداد، جعل الموج يتسرب إلى عنوان سيرته، وفصولها بسبب إدمانه العيش والبحر.
أمّا عنوان السيرة الموازي (سيرة عراقيّة) فهو بنيةٌ علاميّةٌ لها وظيفة الشرح، والتفسير للعنوان الرئيس «أمواج» فيدل على تعمد أبداه المؤلّف كي يكون قريبا من العراق، على الرغم من البعد المكاني والزماني، وممّا هو جدير بالملاحظة أن القارئ العربي قد تعوّد أن يقرأ على أغلفة السِير وصفا أجناسيّا ينصّ على: (سيرة ذاتيّة) لكنّ «أمواج» خالفت المعهود، وجاءت بمغايرة أكّدها الغلاف، الذي نطق بخريطة العراق، حين ثبّت عليها عبارة (سيرة عراقيّة) بلون أحمر مائل إلى السواد، في إشارة إلى تأريخ الدم في بلاد اكتست باللون الحزين دهورا.

في ختام الموجة الرابعة «كالقدْر نغلي لكنّنا لا نطفح» كان قد استبق ميلاد موجة جديدة وهو يقول: وقد تأهبت للعوم على موجة جديدة، وكان له في ختام موجته الخامسة «نبيّ الخيول» أن جمع بين موجتين استقامتا من عمق التوتر واحدة لتتلاشى سابقة لها

بُنيت «أمواج» عبد الله إبراهيم من إحدى عشرة (موجة) كلّ واحدة منها بمنزلة الفصل إلى السيرة، وهي بدورها انقسمت على عدد غير متساو من الصفحات والتفصيلات، أو التقسيمات لتكون المجال الأرحب لسرد السيرة، وبهذا الشكل الكليّ من الموجات تكون السيرة قد أخذت شكلها الواضح، فما إن تتلاشى موجةٌ، حتى تبدأ الأخرى في حركة اتصال مدارها الأرحب سيرة عبد الله إبراهيم، التي بدأت من الطفولة مرورا ببغداد، وليبيا، وعمّان، لتنتهي في الدوحة. وكان لأمواج الماء أن طاردت لغة سارد السيرة على مدار متن الأمواج كلها إلا في استثناء واحد، فهي تحيل على (رمزيّة) مكانيّة تتعلّق بموضوع زمكاني يعبّر عنه من خلال فهم خاص بالحياة متّفق على دلالته، اقترحه صاحب السيرة لسيرته، ففي ختام الموجة الأولى «بيضة الريح» كان مؤلّف السيرة قد سرد لنا حكايته الأولى، فضلا عن حكاية سفره إلى القاهرة لتتلاشى أولى «أمواج» حياته كبيضة الريح التي لا وجود لها كناية عن العدم، وهذا ما فعله في ختام الموجة الثانية «هل كان الأمر خداع بصر؟» التي استرجع فيها حوادث مختلفة منها حادثة موت عزيزين له، فضلا عن استرجاع سيرة تخرجه في جامعة بغداد لتتلاشى موجة أخرى من سيرته أيضا، وهذا ما حدث في نهاية الموجة الثالثة (الأب الأقرع ضابط في قادسيّة صدام) التي ختمها بحكاية قبوله في دراسة الماجستير في جامعة بغداد لتتلاشى موجة أخرى من سيرته، وتبدأ أخرى.
في ختام الموجة الرابعة «كالقدْر نغلي لكنّنا لا نطفح» كان قد استبق ميلاد موجة جديدة وهو يقول: وقد تأهبت للعوم على موجة جديدة، وكان له في ختام موجته الخامسة «نبيّ الخيول» أن جمع بين موجتين استقامتا من عمق التوتر واحدة لتتلاشى سابقة لها، وللموجة السادسة «تيس بغداد» أن تختتم بهمّ دفين بعد أن لاحت الحرب الأمريكيّة على العراق 1991 في الأفق، وكأن موجة من موجات التأريخ تكتسح بغداده وتكتسحه معا، وفيها صار للموجة إيقاع موت محقّق، في الموجة السابعة «هل من أمر يستحق أن نموت من أجله؟» التي عاشت أهوال القصف الأمريكي للمدن العراقية وبغداد تلاشت (الموجة) من ختام «الموجة: الفصل» تحت وابل القصف الهمجي لمدن التأريخ.
في الموجة الثامنة «خريطة الليل الأسود» التي خُتمت بتقرير حقيقة أن اكتساب الوعي كاملا بدفعة واحدة أمر مستحيل، فمسارات الوعي ملتوية ومتداخلة وبطيئة، يصعب التنبؤ بنهاياتها، ظهرت الأمواج المتلاطمة تتدافع حينا، وتتتابع حينا آخر، فتنحسر موجة لتظهر أخرى، وفي الموجة التاسعة «حمار البراري وعاهرة سومر»، التي عاش فيها أيامه الأخيرة في بغداد، قبل أن يغادر إلى الأردن على ظهر موجة أخرى تكتمل حلقة أخرى من حلقات الأمواج.
في ختام الموجة العاشرة «في نزل البرابرة» يرحل عبد الله إبراهيم من ليبيا إلى الدوحة على ظهر موجة أخرى، وهو يحمل أسوأ ذكرى في حياته، أمّا الموجة الحادية عشرة الأخيرة «عصر الغشماء» فتنفتح على طبيعة الحياة في جامعة قطر، وقضايا أخرى وقد خلت من الحديث عن أي موجة، وكأنّ غيابها إيذان بإقفال نصّ السيرة وبلوغ موجاتها المنتهى.
*ناقد وأكاديمي من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول وفاء عبد الرزاق:

    شكرا لوهجكما معا

  2. يقول د سعد التميمي:

    قراءة واعية وعميقة احسنتم دكتور

إشترك في قائمتنا البريدية