ظل الجدل الفلسفي حول حقيقة الإنسان وكونيته، محل اختلاف شغل العديد من المكونات التاريخية للمعرفة البشرية، ليشمل عوالم متنوعة سبق وأن أبصرت الإنسانية جمالية أشيائها وعنفها الطبيعي، إلا أنّ الإنسان مبحث سببية الوجود، كهيكلية حيوانية تطورت عبر أزمنة متتابعة، أو حقيقة آدمية أريد لها أن ترقى إلى ملكوت الذات الإلهية، بقي يكتشف العالم الخارجي قربانا منه ليصل إلى جواب خلاصه الأبدي، عن أسئلة أرّقت الفلاسفة وأرباب المكاشفة، ولتتوقف البشرية في فترات تاريخية على صروح حضارية وحروب قضت على البيئة الحياتية للتنوع الجمالي، من أجل صراعات زائفة بحثا عن قدسية أفرزتها شهوة المال والملك والدين؛ نحاول في هذا المقال البحث عن طبيعة «الارتباط الإنساني» مع عوالم أخرى تتدافعها «الضرورات التاريخية» نحو «عالم التكليف»، عالم شغل مركزه سر الإنسانية الآفلة.
إذا سلمنا ابتداء أنّ لكل شيء عالما بذاته، متكونا ومختلقا كان علينا أن نؤمن أنّ للإنسان كذلك عالما اصطنعه لنفسه وعقله، فجعل له تصورات وحقائق يحاول من خلالها أن يتكفل بالضروريات المعاشية لبقائه حيا، وليدفع ما يهدد تواجده الجسماني والروحي، وللقيام بذلك تمييز الجنس البشري عن سائر الأجناس الكونية والعناصر الطبيعية بأمرين مختلفين، يحتاج أحدهما للآخر بغرض محاججة الطبيعة في قدرة الإنسان كنظام بشري على الإذعان أو ردع القوة المحركة لها، فالعقل كلغة الإنسان نحو سائر الأشياء، أخرج البشرية كونها نتاج تطوّر بدائي عن جينات حيوانية، كي يمنحها عالما يليق بها، ويرفعها عن دنيوية الطبيعة التي وجدت للتكاثر والتنوع والاندثار، فكان عالما يحمل تساؤلات جوهرية حول ماهية العقل ذاته، وقدرته على استيعاب الموجودات والغيبيات المطلقة، بما يكفله من يقينيات وأجوبة ظنية صقلت هوسه التاريخي، ليأتي «عالم التكليف» كفضاء يدور في فلكه الإنسان مذعنا لتفكيره ويقيناته الفطرية.
عرش المحبة والوجدان
إلا أنّ العقل لم يكن الآمر الناهي للإنسان فحسب، فقد زاحمه في التملك عضو ضمن تكوينه الجسماني، بضخ الكثير من الدماء التي تنقل معها الأحاسيس والذكريات، مع جزئيات الحياة ونفحات الخلود إلى سائر البدن، فجاء القلب عرش المحبة والوجدان والخوف والتيهان، وفعل الجوارح وعقالها متى استوفى الفؤاد منها حقها، ومع ما حمله العقل من إرث معرفي حول ماهية وحقيقة الأشياء، كان القلب يثبت عند أول إمتحان له نحو عالم غيبي يجهل العقل «لغته»، صدقه وانقياده وإيمانه، عالم لا سبيل «للتواصل» معه إلا من خلال مسلكين أساسيين، أحدهما أن تسكننا روح الأشياء بجمالها عند امتحانها، أو أن نكاشف «العالم الغيبي» الذي لا نملك منه سوى رسائل سماوية وتأملات رمزية، ترفع ما استشكل حول واجبنا/حقنا وسمونا الكوني.
ونحن كبشر كنا من سلالة حيوانية أو أبناء آدم التاريخيين، فإننا لا نملك في فعل الخلايا(الذرة) من شيء، إذ إنّ الواحدة منها تنقسم وتتكاثر إلى ملايين الخلايا المماثلة(التكوين) والمختلفة (الاندثار)، التي لم يكن الإنسان ليؤمن بها لولا هذا الإرث الهائل من المهارات والعلوم المتداولة تاريخيا، عبر أجيال يتدافعها الحب والخوف من البشرية والطبيعة، كانت الخلايا إلى وقت قريب ضمن عالم خضع للمشاهدة المادية اليقينية، بواسطة آلات خمس (البصر، السمع، الأذن، الجلد، اللسان) خلقت لنا عالم «الشهادة-الحسي»، فلو نظر الإنسان إلى الصحراء، لآمن بعظمتها واتساع رقعتها، إلا أنه يجهل ما في باطنها من خيرات معدنية وصناعية وحياتية، وقد اجتهد العقل البشري في البحث عن منافذ للخروج عن سطوة دائرة عالم الشهادة الحسي، نحو عالم تختفي أشياؤه خلف ضعف وعجز الجسمانية، فالجنين الذي كان خلية في ما مضى، لم يعد مجهول التكوين بسبب يقينيات الوحي وحجة العلوم المنبثقة عن حاجات الإنسان التاريخية.
تخليد البشرية
وعالم «الشهادة- الخفي (الشبه- الغيبي)» هو من الطبيعة قائم بذاته وقوانينه، لضعف الإنسان عن إدراك ما وراء الجدر الخمسة لحين من الزمكنة، فلو أنّ حاكما تظاهر له الناس بالشكر والتبجيل، إلا واحدا قام ثائرا يصرخ ذاما إياه، ما كان الحاكم ليشتاط من سباب الرجل ما لم «تسمع العيون» فتنقل الكلام إليه، كذلك الأشياء لا تملك من فعلها سوى العارض الذي يثبت أزلية القوة التي تحكم حركتها، عبر «أزمنة معتبرة» لكل منها آجال تحيط بآمالنا اللامتناهية، يصارع الإنسان بواسطتها تواريخ يجهل أساساتها.
ونحو تخليد البشرية لملامحها وأساطيرها، بنحت الجبال بيوتا ومعراج العلوم نحو السماء وتفكيك مصفوفات الأشياء، فقد ألزمت الضرورات التاريخية مشيئة الطبيعة والإنسان في التكليف والتسليم بكثير من التحديات، التي أثبتت مع اعتراض الزمان لها أبديتها وإحاطتها بعالم الإنسان/التكليف، وقد اعتبر بعض الفلاسفة وعلماء الشرائع السماوية أنّ الروح والعقل كباعث للنزعة الخيرية، والنفس والهوى بواعث للشر، وكل منهما دافع داخلي مركزه القلب الذي تجري عليه السنن بالاعتقاد والتكليف، ولأنّ الأشياء مادة وهواء وماء ونار، فإنّ فعل العناصر الأربعة يسري على سببية الحركة واستمراريتها، متى لم تفارق الأشياء تكوينها بالاندثار، وهذا بائن في حال المحبة والخوف والموت، فالأول ذهاب للعقل والثاني ثبات للطبع والثالث ضمن «عالم الغيب».
وقد ظلت الحياة والموت الهاجس الذي شغل تاريخ البشرية، فالسعي وراء «خبز الحياة» كون الإنسان يحيا ليعيش، أو ليدفع ضرر الحوادث والأشياء، أو لتتصالح الأرواح في ملكوت الغيب، ما عاد ليشفي غليل السائرين نحو جنان الأبدية، الراغبون بتخليص ذواتهم وعتقها من جسمانية استعبدت رغباتهم وألجمت خلاصهم، فالموت وإن كان ظل الحياة إلى أن تقوم الشمس من مغربها، وقوة صامتة لا تفرق بين غني وفقير ولا مريض أو صحيح كما تفعل الحياة، إلا أنه في فعله الأولي سواء فارقت الروح مسكنها أو أنّ البدن اهتلك في دورة الزمان(التداول)، بقي الموت يحمل معه الكثير من الذكريات/الماضي والآمال/المستقبل التي ابتدعتها البشرية عبر التاريخ، وهو الذي جانب فعله التقديس فلم يترك لشيء سمة الخلود، وما من متحرك إلا أسكنه وقيده الزمان فأهلكه.
الغيب- المطلق
من أجل ذلك كان «الغيب- المطلق» كعالم تقع منه الحوادث التي لا قدرة لعقل الإنسان في دفع ضررها، كالموت وهيمنة الأشياء، وللبلوغ إلى فهم أسرار عالم الغيب(المطلق)، تنوع فعل الإنسان إلى تأليه ذاته ومكاشفة إيمانه للحقائق واستيفاء شرط الاعتقاد وإنكار ما وراء الطبيعة، وهو بعد ما زال يبحث عن حقيقة يقينية للموت والأبدية كي يزيح عنه سطوة الأشياء.
ودونه «غيب ـ مقيد» كعالم احتكم لحدود الزمان والمكان، فالماضي والمستقبل لهما لحظة مغايرة حددت بدايات ونهايات آجال الإنسانية لا العالم، وقد تفحص علماء الأنثروبولوجيا تاريخ البشرية بحثا وجردا وتبصرا في الآثار المتبقية والحضارات البائدة، واشتغلت فلسفة الإنسان في كشف مضامين تاريخية تجلت إماراتها في حضارة بلاد النهرين، وكان كل علم منهما منهمكا في معرفة جوهر (التدافع) الواقع بين الأمم وحضارتها، وتقديس الأشياء وتأليه الحوادث، إلى أن اتخذت البشرية لها عبر التاريخ آلهة من لَدُن الطبيعة والحوادث، فطغت صفة التعارض بين الأشياء والإنسان في التأليه كي تتجلى للوجود القوة التي خلقت العالم من عدم، ولولا عالم الغيب (المقيد) لما كان دفن البشر لموتاهم مخالفا «لعالم الحيوان».
والزمان بوصفه ميقات تاريخ الأشياء والإنسان، فإنه «قدر» لا مناص للعالم الكوني منه، ومثلما الأعمار يختلف ميزانها من جنس لآخر، لعلّة سريان الزمان على حركة الأشياء، فإنّ عمر الخلية الإنسانية لا يمثل حياة الإنسان المكتمل جسمانيا، والإنسان نفسه بأقداره ومهاراته وعلومه لا يمثل تاريخ الحياة الأزلية، فالزمان وإن كان لصيق مشرق الشمس ومغربها، إلا أنه زمان ميقاتي ينافي أبدية الموت والحياة، وهو ضمن «ميقات كوني» يستحيل على العقل البشري إدراك منتهاه، ومنه الإحاطة والتدافع والتداول والتواصل والتنوع والحركة كضرورات كونية صنعت تاريخ العالم بأكمله، تحت ضبطية «زمانية تكاملية» تقع تحت ناموسين عظيمين هما، السببية والتقدير، وهما اللتان نقضتا جبر الأفعال وعبثية الخلق، لتكونا كفتي ميزان قوة صبغت العوالم حقيقة بصفة العدل.
لقد أنجزت البشرية نماذج «إنسانية تاريخية» تألّه بعضها على بعض، في مدافعة الحوادث واستغلال المادة وبناء الحضارات، كما أنّ الإنسان التاريخي لم يبق حبيس آثاره وأساطيره، فقد نقلت لغته صورة العالم الأزلي المحاكي لطبائعه ومواهبه، ذلك الإنسان لم يتوان للحظة في الهيمنة على عالم الأشياء، حتى بات اسمه منحوتا في جداريات تاريخية تكافح الإنسانية لمحو آثارها المرعبة، من خلال ضرورات تاريخية تنقل لنا الحقائق الكونية لا البشرية، بنسج الكثير من الأسباب وحملها على عاتق التكليف، فننظر إلى صنائع الإنسان كضرورة لجلب المصلحة وتبادل المنفعة، ونتأمل تصوراته التواصلية وأخلاقه المتداولة، من غير أن نجيب عن سؤال كون الإنسان كضرورة للحياة متى استوفى شرط القبول الكوني، لا آلهة تاريخية اعترتها الأبدية، ويبقى سعينا خلف حقيقة الأشياء وروحها، أمرا كونيا ارتبط بالحكمة والتقدير، كي يصير ما دون الله هو العالم».
٭ كاتب من الجزائر