يا قضاة إسرائيل: لقد أكلتم يوم أطعمتمونا للذئب

حجم الخط
2

تشكك قطاعات إسرائيلية واسعة في مصداقية البيانات التي خاطب فيها بنيامين نتنياهو، ويخاطب مواطني الدولة، حيث دأب ويدأب من خلالها على استعراض تفاصيل أزمة كورونا وتداعياتها محليًا وعالميًا، وإعلانه عن رزمة من التعليمات والنصائح والمحاذير يسديها للناس ويأمرهم بضرورة الالتزام باتّباعها وتنفيذها.
ورغم التشكيك في مصداقية ما يقوله نتنياهو، والقناعة من أن دوافعه في تخويف الناس مصطنعة ومغرضة، مردّها إلى محاولته إنقاذ نفسه من مواجهة القضاء، بعد تقديم ثلاث لوائح اتهام خطيرة بحقه، إلا أنه على الرغم من ذلك، يبقى مؤشر أعداد المصابين بالفيروس البغيض عاملًا حقيقيًا ومفهومًا في إذكاء مشاعر الهلع بين المواطنين، وانصياعهم الذاعن لمعظم تعليمات أنظمة الطوارئ، التي تعلن عنها حكومته، خاصة بعد إقرانها بأعداد المصابين الجدد بيننا، وبزيادة أعداد الضحايا في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرها.
على جميع الأحوال، لا يمكن، بسبب حسن حظ نتنياهو السماوي أو المصنّع، وبسبب حنكته في استغلال الكوارث والمحن، أن نغامر في مواجهتنا لمخاطر الفيروس، أو أن نستخفّ بضرورة التصرف أزاءها بكامل المسؤولية الاجتماعية، وبمنتهى الانضباط الأخلاقي، مهما طالت أيام عزلتنا الثقيلة.
لا نعرف متى وكيف ستقضي الدول على هذه الجائحة، ولا كم من الأرواح ستحصد، أو من الدمار المادي ستخلّف وراءها، لكنها ستبقى، من دون ريب، نُدبة على جبين البشرية جمعاء، وستتحول آثارها في إسرائيل، علاوة على ذلك، إلى محطة لا نعرف ما سيأتي بعدها والى أين ستأخذنا؟ فحسبما نشهده في هذه الايام، تمر على الدولة أزمة حكم خطيرة ومصيرية، قد تفضي إلى قيام نظام حكم ديكتاتوري مستبد، والى إسرائيل أخرى، كتلك التي جاء وصفها في الأسفار، تعشق دخان المذابح والنفخ في الأبواق، ويشكر شعبها، في صلاة كل فجر، رب إسرائيل، ملك المعمورة، لأنه خلقهم يهودًا، لا عبيدًا ولا أغيارا. سنواجه قريبًا، نحن المواطنين العرب، بعد سقوط ستائر كورونا، مجتمعًا يهوديًا خائفًا متوحشًا مأزومًا، وسنكون بالنسبة لأكثريته مجرد أحمال زائدة يجب التخلص منها بكل وسيلة وبأي ثمن. إننا نشاهد فصل الرواية الأخير، فالمعركة الجارية على عتبات المحكمة العليا الإسرائيلية هي آخر ما تبقى من مواقع، يحاول أصحاب نظام الدولة القديمة الدفاع عنها والاحتفاظ بها. لكنهم سوف يهزمون في نهاية المطاف، رغم صمودهم يوم الاثنين الماضي، ووقوف خمسة منهم في وجه التنين، وإصدارهم قرارا يلزم المتمرّدين، على بقايا ديمقراطية عرجاء، بضرورة دعوة الكنيست إلى الاجتماع وانتخاب رئيس جديد لها.
لقد صحوا على أنفسهم متأخرين، فقد كانوا، مثل من سبقوهم، شركاء في تصنيع الكارثة واستجلابها إلى مهاجعهم، بعد أن خانوا، لعقود طويلة، تعاليم العدالة الحقة، وجنحوا، مثل سائر العنصريين، فكانوا جنودًا للظلمة وسياطًا بيد القامعين والمضطهِدين. إنهم قضاة المحكمة العليا الذين أغفلوا صراخي، وصراخ زملائي، حين كنا نتوجع ونشكوا أمامهم ونحاول تعليمهم حكمة الضحية الحالية، وهي تذكّر من كانوا ضحية في الماضي وتحذرهم، إن لم يصحوا ويقفوا إلى جانب «الثور الأبيض» فإنهم حتمًا سيؤكلون

رسالة مفتوحة، ثالثة، إلى قضاة المحكمة العليا السابقين والحاليين

لقد وجهت إليكم رسالتي المفتوحة الأولى قبل عشرة أعوام، عبر رئيسة المحكمة العليا القاضية دوريت بينش، وأتبعتها، بعد ستة أعوام، برسالة مفتوحة ثانية، وجهتها لرئيسة المحكمة في حينه القاضية مريام ناؤور. أعمل، كما تعلمون، أمام محكمتكم منذ أربعة عقود، كنت فيها شاهدًا على انحداركم نحو الهاوية. تربعتم على عروشكم الوهمية ونظرتم إلينا بتشاوف السيد على عبيده، وحسبتمونا ثلة من مشاغبين. لم تسمعوني وأنا أنبهكم إلى أننا «الأولون وأنتم اللاحقون» ولم تصدقوني، حين كتبت لكم مؤكدًا: إنني أخاف عليكم، فأنا كإنسان أريدكم، أنتم القضاة، أقوياء وسدنة لصفاء القانون، الذي يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد والعاسف. وأكدت أنني كمواطن في الدولة، أريدكم أقوياء، لأحتمي بقوتكم عندما يسلب حقي جورًا.. وأنني، كابن لأقلية قومية في هذه الدولة، أريدكم ترسًا يصدّ عني مخالب تدميني وأنيابًا تجيد القبض على كل مقتل في جسدي. لم أتخلّ طيلة تلك العقود عن محاولاتي لإقناعكم بأنكم تسيرون إلى منزلق خطير، وتوقعت أمامكم بأن المنقلب سينقلب عليكم وعلى كل يهودي سيتجرأ على رفع صوته يومًا، بما لا ينسجم وهتافات «القطيع»، وضجيج تلك الجوقات اليمينية العنصرية الناعقة، وفرقها الضاربة، وكنت أردد على مسامعكم، رغم امتعاضكم من وضوحي، أنهم كالعلقات الطفيلية التي لا تكتفي ولا تشبع. كم مرة عُنّفت، يا سادتي، بسبب «وقاحتي» لأنني طالبت بمساواة حكم المواطن العربي مع حكم اليهودي، فوُصفت من قبلكم بالوقح والمتمادي. وكم مرة رددتم تظلمات شيخ أو امرأة أو فلاح فلسطيني، أتوكم شاكين إرهاب جيشكم أو بطش ميليشيات المستوطنين السائبة، فلم يلقوا إلا إعراضكم، ولم نسمعكم إلا مردّدين فرية الجبناء المداهنين، وتعليلهم بأن أولئك ليسوا سوى كمشة من «الأعشاب الضارة» التي تنمو على هوامش الحياة.

جهاز قضائي لا يميّز بين الضحية الحقيقية وقاتلها، لن يحمي حتى جلده، مهما تراجع أعضاؤه وانحنوا وطأطأوا رؤوسهم

قصتنا، نحن العرب في هذه الديار، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تستقصى من بداياتها، التي ولدت قبل ولادتي بسنين قليلة، فقد سقطتم عندما تبنّيتم مفاهيم نظرية «الأمن»، تمامًا كما هندسها ووضعها أمامكم جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية، وتجنّدتم من أجل تطبيقها العملي، فطوّعتم كل القيم الإنسانية في خدمتها، ورتقتم بمسلات صدئه تضاريس علاقة دولتكم مع مواطنيها العرب، الذين كانوا في أعينكم، كما في أعين الجنرالات، لا أكثر من أجسام مشبوهة أو ألغام مزروعة على طريق الدولة وبين سكانها اليهود. كنا نصرخ أمامكم، كما صرخ السابقون منا، ونؤكد لكم أن ليس هكذا يقام العدل، ولا هكذا يبنى المستقبل، لكنكم مضيتم في هدي وطنيتكم العمياء وقدّمتم، كما قدم معلموكم، الذرائع الواهية، وجمّلتم الواقع بمساحيق من بارود، فظلمتم سكان البلاد الأصليين المنكوبين، وساهمتم، بعدها، في ترسيخ موبقات احتلالكم ضد الفلسطينيين المنتكسين.
لم تسعفنا، يا سادتي، النداءات ونبوءات الغضب.. فلا نجاة مضمونة لأحد ما دام صوت المسدسات والبساطير يجلجل في ساحاتكم منذرًا: إما خنوعكم واستسلامكم وإما «أعواد المشانق»، أو كما قلت لكم قبل عشرة أعوام: إن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة قتلة عصاة، وجهاز قضائي لا يميّز بين الضحية الحقيقية وقاتلها، لن يحمي حتى جلده، مهما تراجع أعضاؤه وانحنوا وطأطأوا رؤوسهم…
«لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، التي قصصتها عليكم في مرافعاتي، ولم تذوتوا مغازيها – ستبقى حكمة الضحية الناجزة المقدَّمة لضحية تنتظر على خط التماس.
لقد أخافني شعور زميلتكم رئيسة المحكمة السابقة مريام ناؤور، حين احتجّت قبل أربعة أعوام في بيت رئيس الدولة، على موقف وزيرة القضاء السابقة شاكيد، ووصفت تصرف الوزيرة تجاهكم كمثل واحد يضع مسدسه على طاولة تفاوض بين طرفين غير أعداء، لقد كنتم أنتم القضاة هذا الطرف الآخر في ذلك المجاز المخيف.
وأخيرا جاء تمرد رئيس الكنيست ادلشتاين، وهو مدعوم من معسكره، على قرار المحكمة العليا، ورفضه دعوة الكنيست وانتخاب بديل له – فاصدرت المحكمة، يوم الأربعاء الماضي، قرارًا جديدًا يخوّل النائب عمير بيرتس إكمال مهمة رئيس الكنيست، ووصفت تصرفات ادلشتاين بأنها «مساس غير مسبوق بسلطة القانون».
لقد كان لجوء القاضية مريام ناؤور، في حينه، إلى استعارة المسدس من باب تطويع البيان، في خطاب حذّر من غضب الايام المقبلة. لكنني أشعر اليوم، ككثيرين في الدولة، بأن هذه المسدسات باتت حقيقية ومحشوة وجاهزة لتقضي على بقايا نظام ينازع أمامنا، فهل لدينا، نحن المواطنين العرب ، فكرة كيف ننجو من ذلك الرصاص؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أحلى ما في عنوان (يا قضاة إسرائيل: لقد أكلتم يوم أطعمتمونا للذئب) هو أنه صادر من (جواد بولس)، عربي وغير مسلم من فلسطين، والأهم هو لماذا؟!

    هل الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية أولاً، في لغة قوانين دولة الكيبوتسات عند تأسيسها عام 1947، أم الكيبوتسات هي أولاً في لغة قوانين الدولة،

    ثم دولة الكيان الصهيوني ليس لديها دستور، لأن ليس لها حدود،

    ثم المحاسب والمحامي والقاضي، كل عملهم مبني على أن يستغل تعارض النصوص القانونية،

    من أجل مشاركة الدولة في الإيرادات قانونياً،

    الرياء، ليس له علاقة بأي احترام، في عالم السياسة/الثقافة في دولة الحداثة،

    إشكالية فهم، مواطن دولة الحداثة للأحزاب الديمقراطية هو القولبة، ولا تفهم شيء بدون قولبة فلان أو علان من مسؤوليه أولاً، وعلى ضوء قالب مسؤوله سيكون أداء أي وظيفة،

    فمن لا يحترم تشغيل عقله، لن يفهم معنى الاحترام، أو غيره من المعاني، فكل شيء عنده ممكن، وكل شيء عنده مستحيل في نفس اللحظة،

    في نظام الأمم المتحدة، ليس هناك معنى للعدالة، بل تمرير أي قانون أو تعليمات، يعتمد على عدم اعتراض أي أحد من حاملي حق النقض/الفيتو،

    كما حصل بعد حرب 1973، عندما اعتبر معنى الصهيوني مثل معنى النازية، وتم إلغاء ذلك الآن؟

  2. يقول Aiesh ali:

    أعي جيدا مدى معرفتك اللصيقة بنظام الحكم في الدولة العبرية، لكن أستاذ متى كانت قوة السلطات العامة الثلاث و استقلالها في خدمة المبادئ الانسانية؟
    لا تنسى أن المخيال العام في الدولة العبرية على مستوى النخب السياسية أم على صعيد العامة من الشعب يعيش تحت المعيار الأمني مقدم على غيره من المعايير ، فبموجب هذا المعيار ضيعت حقوق كثيرة ليس على مستوى الحقوق المدنية والسياسية لعرب 48 وإنما بالنسبة لأشقائهم في الأراضي المحتلة عام 67، كل ذلك كان بمباركة وبغطاء من السلطة القضائية.
    للأسف بعيدا عن الرؤية التشاؤمية فالجهاز القضائي في الدولة العبرية كما بقية الأجهزة مكرسة لتكريس أنموذج دولة وفقا للمشروع الصهيوني على اختلاف تياراته، والتي تتماهى فيما بينها وتذوب الفوارق لحظة بروز الهاجس الأمني بغض الطرف عن طبيعته وظروفه .

إشترك في قائمتنا البريدية