لبنان حالُ اجتماعٍ سياسي تعددي حركي، تديره ولا تحكمه سلطة ظرفية توافقية متغيرة باستمرار. لأنه كذلك فقد كان وما زال مفتوحاً على عوامل وقوى خارجية مؤثرة. لا داخلَ وطنيا خالصاً في لبنان، بل وضع سياسي سياسي تُداخله عوامل وقوى خارجية متفاوتة التأثير والفعالية.
إلى ذلك لا دولة في لبنان، بل نظام او منظومة هي عبارة عن آلية mechanism لتقاسم الإدارة والمصالح والنفوذ، تسيّرها شبكةُ متزعمين في طوائف وجماعات، ورجال أعمال وأموال، ومتنفذون في الأجهزة الأمنية والعسكرية.
أنواع وأنماط شتى من العوامل والقوى الخارجية، تدخلت وتداخلت في الرقعة الجغرافية التي عُرفت باسم بجبل لبنان، منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أن استقرت على اسم لبنان، بقرار من سلطة الانتداب الفرنسية سنة 1920.
غير أن العامل الخارجي الأكثر تأثيراً في حال لبنان، يبقى جائحة، أو وباء كورونا الذي ضربه في مطالع سنة 2020 وما زال يضربه بلا هوادة، وقد يبقى فاعلاً ومؤذياً إلى أمد بعيد.
الحقيقة أن كورونا ظاهرة، أو عامل عالمي مؤثّر بامتياز. فقد شمل تأثيره المؤذي كل القارات والمحيطات والبلدان، والشعوب والمدن والقرى والأحياء والمنازل، وأدى إلى إحداث تغييرات جوهرية في كل مناحي الحياة. العالم بعد كورونا غير ما قبله، فماذا سيكون حال لبنان؟ لا يمكن تقديم إجابة متكاملة عن هذا السؤال، طالما أن كورونا الشديد التأثير والأذى، ما زال متواصلاً وفاعلاً. ما يمكن عمله في هذا المجال هو رصد بعض المؤشرات التي يمكن تحويلها إلى توقعات على النحو الآتي:
أولاً: تقدّم المجتمع بفعاليته على السلطة
يتخبط لبنان بأزمات واضطرابات، ويواجه تحديات شتى سابقة لاندلاع جائحة كورونا، ما أدى إلى قيام انتفاضة شعبية عابرة للمناطق والطوائف والمشارب. أهل نظام المحاصصة الطوائفية، حاولوا تطويق الانتفاضة ولجمها. لكن اندلاع جائحة كورونا، زاد الأزمة المالية والاقتصادية تعقيداً وتأجيجاً، ما أدى وسيؤدي إلى تعاظم الفقر والبطالة والمجاعة والمرض والنقمة الاجتماعية، وبالتالي إلى تثوير الطبقة الشعبية، وذوي الدخل المحدود، وأبناء الطبقة الوسطى والساخطين، على أهل السلطة الفاشلين، ذلك كله من شأنه تعظيم فعالية المجتمع وتقدّمه على السلطة عامةً، وأهل نظام المحاصصة الطوائفية خاصةً.
لا دولة في لبنان، بل نظام أو منظومة هي عبارة عن آلية mechanism لتقاسم الإدارة والمصالح والنفوذ
ثانياً: تداعي نظام المحاصصة الطوائفية، وتنامي ظواهر كونفدرالية ذاتية:
إذ يتفكك نظام المحاصصة الطوائفية، ويتداعى تحت وطأة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، وتعاظم الحراكات الشعبية، تنمو في المقابل كونفدرالية ذاتية بفعل تعاظم الحاجات الاجتماعية الناجمة عن قصور السلطة وتقصيرها في أداء وظائفها وواجباتها من جهة، واشتداد وطأة جائحة كورونا على الصحة العامة والأحوال المعيشية، من جهة أخرى. ذلك كله حمل بعض التنظيمات السياسية والمجالس البلدية على المسارعة إلى النهوض بالمسؤوليات والواجبات، والأعباء الاجتماعية والصحية، المتوجبة على نحوٍ مجزٍ ولافت. تبرز في هذا المجال حملة التوعية والمساندة الاجتماعية والصحية، التي يقوم بها حزب الله في محافظتي الجنوب ومحافظتي البقاع وجنوب محافظة جبل لبنان (ضاحية بيروت الجنوبية). كما تزامنت هذه الحملة مع حملات مماثلة، إنما أقل اتساعاً، تولاها بعض الهيئات الطائفية والمجالس البلدية في مناطق شتى. إن من شأن هذه الظاهرات إتاحة الفرصة لبعض الجماعات والتنظيمات السياسية المشبوهة لترويج شعار الاستعاضة عن النظام السياسي المركزي المترهل، بآخر كونفدرالي، كما من شأنها في المقابل تقوية اتجاه وطني يدعو إلى الاستعاضة عن النظام الحالي المترهل، بآخر قوامه دولة مدنية ديمقراطية تنطوي على لامركزية ولاحصرية إدارية.
ثالثاً: إعادة هيكلة الاقتصاد وبناؤه على أساس الإنتاج:
تدَهورَ الاقتصاد الوطني قبل كورونا، وتأزّم بعده. ذلك أن النظام الاقتصادي الحر المتفلت من أيّ كوابح للاحتكار، والمبني على أساس الخدمات، والخالي من أي حوافز تشجيع للإنتاج الزراعي والصناعي، والمفتقر إلى نظام ضريبي عادل، والخاضع لمصالح كبار أصحاب المصارف، محكومٌ عليه بالاهتزاز، ومن ثم التداعي تحت وطأة الأزمات السياسية والاجتماعية المتلاحقة، وتداعيات جائحة كورونا. من هنا تنبع الحاجة الملّحة إلى وضع خطة اقتصادية متكاملة، لإعادة هيكلة الدين العام، وإصلاح القطاع المصرفي، وضبط المالية العامة، وتعزيز جودة التعليم الرسمي، والحؤول دون خصخصة المرافق والمؤسسات العامة، وتطبيق الضريبة التصاعدية على أرباح الشركات والريوع والثروات الكبيرة، ومكافحة الاحتكارات، وإلغاء الوكالات الحصرية، وبناء اقتصاد وطني منتج، بدل الاقتصاد الريعي، وتعزيز التكامل الاقتصادي مع دول الجوار العربي، وتعديل اتفاقات التجارة الحرة، والانفتاح على الصين وروسيا وإيران لتأمين استثمارات مجزية في الصناعة والبنى التحتية.
رابعاً: تنظيم إعادة النازحين إلى ديارهم:
أدى اعتماد نهج التبعية للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، إلى التزام مسؤولي نظام المحاصصة الطوائفية سياسة العداء لسوريا على مستويات عدّة منها، عرقلة إعادة النازحين السوريين إلى ديارهم، ولاسيما إلى المناطق التي باتت تحت سيطرة الحكومة المركزية في دمشق. غير أن تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان، وازدياد نسبة البطالة، وتوافر ظروف وفرص متزايدة أمام سوريا لمباشرة عملية إعادة الإعمار والإنماء، سيدفع إلى مراكز السلطة في لبنان، قياديين وطنيين من غير أهل نظام المحاصصة الطوائفية المتهاوي، يلتزمون سياسة التكامل الاقتصادي العربي، كما ضرورة وجدوى إعادة النازحين السوريين إلى ديارهم، والإفادة تالياً من الفرص التي تتيحها عملية إعادة الإعمار السورية، للشركات والاختصاصيين اللبنانيين بغية المشاركة في معالجة مشكلة البطالة والركود الاقتصادي.
خامساً: تطور ثقافة مشرقية عروبية نهضوية مقاوِمة:
في سياق مواجهة الأزمات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المار ذكرها، ستتعمق وتتوسع ثقافة مشرقية عروبية نهضوية مقاوِمة، لها جذورها في بلدان المشرق العربي، الأمر الذي سيترك انعكاسات إيجابية على أهل السياسة في الحكم والمعارضة، ويُسهم تالياً في نشوء مرحلة جديدة مغايرة في تاريخ الأمة.
هذه مجرد مؤشرات قمتُ بترجمتها إلى توقعات، أو بالحرى إلى تخمينات، ستبقى محكومة بالتفاعلات والتطورات التي تمور في مجتمعات بلادنا المأزومة والتائقة للنهوض والعطاء.
كاتب لبناني