في الأجواء المتلبدة التي فاقمها وباء كورونا –ولكنه لم يخلقها– يبرز المتنمرون على أنواعهم، الملوحون بأصابع الاتهام، الذين يسارعون إلى التنفيس عن مشاعر الخوف والغضب والحكم على الواقع غير المستقر. ويرفع إلى المشانق “الساحرات” أو “الخونة” لتقدم المذنبين كسبب للأزمة.
يأتي المتنمرون إجمالاً من الهوامش اليمينية واليسارية. كانت منظمة الطلاب اليمينية “قمع الخونة” في 1971 – 1972 ظاهرة كهذه، تكررت في عهد الصراع حول اتفاقات أوسلو. وخطاب النبذ المفعم بمشاعر الغضب والثأر تتميز بها الدعاية الشيوعية، الفوضوية أو الفاشية، التي تتكرر في العالم والبلاد أيضاً. وهو يزيف صورة الواقع بشكل عام، وضرره كبير في أزمنة الخوف وعدم الاستقرار.
المثال الأهم على مثل هذا الخطاب في تاريخنا جاء في سنوات رعب أزمة يهود أوروبا قبل الكارثة. منذ بداية الثلاثينيات، “تميز” اليمين واليسار في الحاضرة اليهودية في البلاد في حينه بخطاب النبذ هذا: فكل طرف صور الطرف الآخر كبلاشفة، وخدمة البريطانيين أو النازيين، وقتلة سياسيين، وفاشيين. وفي أوقات الطوارئ لن يكون المجتمع غير السيادي الوحيد الذي يشابه مجتمع الحاضرة، بل ثمة دول قومية ذات سيادة انزلقت إلى مثل هذا الخطاب النبذي. ويمكن للوضعية النفسية – الاجتماعية أن تحدث واحداً من أمرين متعاكسين: تمزيق المجتمع إرباً أو تبلوره لحماية الحياة والخير المشترك.
لقد استجاب بيني غانتس لحاجة الانطواء حول مركز مرجعية حين استجاب لدعوة نتنياهو الانضمام إلى حكومة طوارئ. ولكن من ذات الخلفية النفسية – الاجتماعية قد نفهم حملة النبذ التي ضد غانتس، واورلي ليفي أبقسيس، وعمير بيرتس، وضد الكاتب دافيد غروسمان، بصفتهم “خونة”. بعدهم قد يأتي في الدور “الأصوليون” الذين يتعرضون الآن لحملة غير ملجومة من نبذ تعميمي.
نحن ملزمون بأن نختار بين ردي فعل على أوضاع الرعب الجماعية: النبذ والتفكك أو رص الصفوف. في مثل هذا الوضع، تكون المعارضة الشرعية، وإن لم تكن حيوية (بريطانيا عاشت على نحو جيد دون معارضة هامة حين هدد هتلر باجتياح شواطئها). ولانعدام حظنا، جاء الوباء بعد سنة من التوتر السياسي ومشاعر النبذ والاتهامات المتبادلة بالخيانة. يكفي أن نذكر الاتهامات عديمة الأساس بأن نتنياهو “خائن” لأنه أقر للألمان بيع غواصات للمصريين؛ فالألمان الذين تبرعوا بالغواصات لإسرائيل لم يكونوا يحتاجون لإذنه. وكان بوسع المصريين أن يشتروا الغواصات من مصدر آخر. ومن الجهة الأخرى، لم يكتفِ اليمين بانتقاد حاد ومبرر، واتهم قيادة الوسط – اليسار في إسرائيل”بالخيانة”، بسبب خطة بعض من قيادة “أزرق أبيض” الموحدة للاعتماد على “المشتركة” وجعل الناخب العربي المحكم الدائم بين اليمين واليسار من خلال انتخابات مباشرة لرئاسة الوزراء.
إن وطنية الأغلبية اليهودية في إسرائيل كفيلة بأن تتغلب على خطاب النبذ هذا. ولكن هناك مجال للأمل أيضاً حين يدور الحديث عن مكانة العرب مواطني إسرائيل وقيادتهم السياسية، التي كانت عرضة لهجمات حادة من نتنياهو في الانتخابات الأخيرة؟ هنا أيضاً يخصي الخطاب الاستقطابي للخونة “الموالين” النقاش الهام في التعقيد المميز للموضوع. من جهة أخرى، هذا النقاش مغلق بطبقات من الحماية بل والازدواجية الأخلاقية لأنه خطير. أوضاع الطوارئ – وإسرائيل “تباركت” بها – قد تكون خطيرة عندما تتحدى الأقلية القومية والدينية الفكرة الأساسية للمجتمع، لما حصل في 2001. ولكن الدولة الديمقراطية غير معنية بأن تستهدف جماعات من السكان في داخلها وتصمها بغير الموالية. وهذا هو السبب الحقيقي لحقيقة أن المحكمة العليا تلتف على نحو دائم على القانون الذي يمنع تنافس أحزاب مؤيدة للإرهاب (التجمع الديمقراطي) أو ترفض كون إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي (باقي الأحزاب العربية).
ولكن الحقيقة هي أن مواطني إسرائيل العرب يصوتون بالفعل لقيادة تشكك بحق تقرير المصير لليهود. وهذا يجب أن يؤدي، ليس في مصلحتنا جميعاً –يهوداً وعربياً– إلى مواجهة على نمط 2001 في مسألة الولاء للدولة. إن تحدي القيادة العربية، والأزمة العميقة للقومية العربية، بما فيها الفلسطينية، ومقابل ذلك عملية الأسرلة للعرب في إسرائيل – كل هذه ستلزمهم أخيراً لأن يختاروا بين إسرائيل والقيادة التي تجذبهم نحو فلسطين الكاملة. لدولة إسرائيل مصلحة واضحة لتقريبهم منها، ولتوضح لهم أيضاً بأن التشكيك بالدولة اليهودية ليس ممكناً.
بقلم: آفي بار-ايلي
بروفيسور محاضر في معهد بن غوريون لبحوث إسرائيل والصهيونية في جامعة بن غوريون في النقب
إسرائيل اليوم 5/4/2020