من أجل تقرير مصير العالم

العالم اليوم موطن لكل الشعوب، والمواطن في أي موقع يمكن أن يصير مواطناً في العالم. فقد كانت الشعوب تقرر مصير دولها، لكن في الزمن الراهن الفائق التطور والتواصل، استوجب اضطلاع كافة الشعوب بتقرير مصير العالم، كمجتمع دولي، تتقاسم أعباءه وتكاليفه ليس الدول الكبرى فحسب، بل كافة الدول والمؤسسات العالمية الحكومية منها وغير الحكومية.
ثمة حقيقة جديدة يعيشها العالم اليوم وتتعلق بوجود وحدات وكيانات سياسية ذات شخصية اعتبارية تملأ كل المعمورة، الأمر الذي يحث على ضرورة بلورة كيان دولي لمواطن عالمي تقرر مصيره كافة الشعوب. ان فكرة تقرير مصير العالم تستند إلى انشداد الإنسان المعاصر إلى المستقبل والتطلع إلى حياة تتسع للجميع، ليس كرغبة أخلاقية أو حلم طوباوي، كما كانت ترمي إليه نبوءات الفلاسفة والكتاب الروائيين، بل كإمكان يجب أن يتحقق وإلا حلّت الكارثة بالجميع.
فقد طال الزمن الذي سيطرت فيه القوى الكبرى، وأن تداعيات الحرب العالمية الثانية يجب أن تتوقف لكي يرسم القادة الجدد معالم طريق إلى خلاص نهائي للبشرية ومن ثم تقرير مصير العالم. إن فكرة تقرير مصير العالم تتطلب عقيدة كونية وإيمانا قويا بالمستقبل، وتطلعا صادقا بأن المقبل أفضل. والحقيقة الجديدة التي صارت تلازم الإنسان المعاصر أنه يعيش حياته في إسقاطاتها على المستقبل، والبعد المقبل في الزمن، أضحى حالة قائمة يحياها الفرد كمعطى عادي، تندرج بشكل تلقائي في يومياته. وعليه، فإن البعد المستقبلي في الزمن المعاصر الذي يكثف لحظة المقبل ويستشرفه أكثر من الحاضر، هو الحافز الجديد الذي يدفع إلى التأمل والتفكير في نبوءة يسع أفقها كل العالم والناس كافة، يستلهمون من معينها على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم وفلسفاتهم وأنماط حضاراتهم في صياغة جديدة ممكنة لرسالة تشرّف خلافة الإنسان في الأرض.

هناك توجه في الشرق كما في الغرب نحو إعادة استثمار الديني والروحي والمقدس في حياتنا المعاصرة

الرُّنو والتَّوق الى ما هو آت يؤشر، في حقيقة الأمر، إلى هاجس إنساني لإنقاذ كوكبنا من الأخطار التي تحدق به من كل جانب، سواء تعلق الأمر بالتحديات البيئية، التكنولوجية، العلمية، العسكرية، الدينية، الاقتصادية، الديموغرافية، التي لم تعد تعني الفرد في دولته فقط، بل الإنسان بما هو انسان، حيثما كان، كما تعني كل الدول على اختلاف درجة وجودها في سلّم التقدم والتطوّر. إن الحاجة إلى تقرير مصير العالم، كما نرمي إليه في هذا المقال، تتطلب منّا الوقوف على المباحث التالية:
*التفكير من وحي جغرافية العالم السياسية القائمة فعلا، والنأي المطلق عن الانفراد بقرارات تولد كوارث سياسية وإنسانية على ما يفعل الرئيس ترامب وعلى ما كرّسته السياسة الإسرائيلية، يجب أن ترفض كأمر واقع وحالة محتمة على شعوب العالم… الأمر الذي يقتضي إعادة البحث في توازنات جديدة تفسح المجال للدول الصاعدة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، مهبط الوحي وبؤرة التوتر العالمي وإمكان الإنقاذ والخلاص.
* لحظة انتظار الانفراج الدولي العظيم عبر إعادة الدعوات النبوية، التي جاءت من أجل بعث الأمل في إمكانية الحياة للإنسان وللأرض. واقع حال العالم اليوم يفصح عن حاجته للإصغاء إلى لغة السماء في لحظة تلقائية وفورية تساعد فعلا على التقاط معاني الوحي والحكمة في مغزاها الكوني والعالمي.
* تناول رسالة الإنسان في بعده العالمي ورفع الحجر عليه من قبل القوى الكبرى المتنفذة، لأنها معنية بإنقاذ كوكبنا ليس عبر سياساتها الوطنية فحسب، بل بواسطة البيانات والمعاني والرسائل التي قدمها آخر الديانات وأشملها: رسالة الإسلام الى الإنسانية، وإمكانية تحرير الإسلام من تصورات الغرب، وسياساته التي تتحكم في العالم، ودعوة الجميع إلى استلهام هذه الرسالة بكافة اللغات المتوفرة، وإلى التوفيق بين لغة السماء وسيمياء العصر كأفضل شيء للنجاة والخلاص.
عالمنا المعاصر ينادي إلى الفضيلة والأخلاق والمنهاج المتعالي الواصل إلى ذروة المعاني السامية ودين التوحيد. فقد عانت المجتمعات والدول والأمم المتطوّرة الحديثة والمعاصرة من غياب البعد الروحي ومن افتقارها للمقدس كمعطى حياتي تلقائي، يساوق ويجايل العالم في عالميته وشموليته والإنسان في كامل إنسانيته. هناك توجه في الشرق كما في الغرب نحو إعادة استثمار الديني والروحي والمقدس في حياتنا المعاصرة، على ما تحوّل إليه المفكر الفرنسي ريجيس دوبري ودعا إليه كلود جوفري وهانز كونغ وفلاسفة ومفكرون يلحون عن صدق ويقين على قيمة وأهمية المقدس والروحي في حياتنا المعاصرة، بل إن الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يذهب إلى ضرورة الوعي بما ينقصنا.
ما ينقصنا في عالمنا المعاصر جدّا وفي العلاقات البينية هو المنهاج النبوي في زمن انقطاع الوحي، وبداية مهمة العقل الذي تشرف به الإنسان من خالقه كأفضل إمكان لتولي الخلافة وإعْمار الأرض وإسعادها. فقد عاشت الإنسانية طوال تاريخها في ظل الشرك أكثر ما عاشت في ظل التوحيد وفي ظل الحروب أكثر من لحظات السلم. واليوم بعد ما صار العالم يتوجه إلى العالمي والإنساني فإن الحاجة صارت أيضا تقتضي المنهاج النبوي الذي يتعالى عن الإثني والطائفي والقومي والأيديولوجي الضيق وكل السِّياجات الدوغمائية، على ما يرى المفكر محمد أركون.
المنهاج النبوي يلح على تشكيل وصياغة المفهوم وإتقان الوظيفة والوعي بالمقصد إلى حد التلازم العضوي، الذي يعصم المجتمعات من الكوارث الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية والويلات السياسية. فمع تقدم التاريخ والمجتمعات تظهر فيه دلالة نزول القرآن الكريم إلى الناس كافة، الأمر الذي يستدعي كل لغات العالم من أجل استيعاب طبيعة المنهاج النبوي ووظيفته بناء على خبرة كل الشعوب العالم، والقدرة على الالتزام بالمقصد من السنن الجديدة. المنهاج النبوي في عالمنا المعاصر يتوفر على إمكانية البناء وإعادة البناء أي تصحيح التجربة في لحظة وجيزة، خلافا لما كانت عليه الأنظمة الاجتماعية والعقائدية السابقة التي كانت تتطلب قرونا وقرونا من أجل إزاحة الفاسد والمدنَّس وغير اللائق. فالقوة الجماعية إمكانية نوعية وعالية عن الفرد الواحد والحاكم الواحد، أي أقرب ما يمكن إلى مستوى النبوية التي تعني الارتفاع عن العادي والناقص والرخيص، والسمو إلى ما هو مقدَّس وروحي ومنعش للوجدان والنفس والعقل. ولعّلنا لا نحيد عن الحقيقة عندما نقدم أكبر شاهد على ما نرمي إليه، هبة جميع الدول والجماعات والأفراد إلى تخطي خطر فيروس كورونا ، كوفيد 19 المستجد، الدائم والمدلهم من أجل إنقاذ البشرية كافة وليس أفراد ومواطني الدول، سواء أكانت عظمى أو صغرى.
كاتب وأكاديمي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية