تونس-“القدس العربي”: تقع مدينة تطاوين الصحراوية في أقصى الجنوب الشرقي من تونس، وهي عاصمة أكبر الولايات التي تحمل اسمها، أي ولاية تطاوين. تحد الولاية شرقا الأراضي الليبية ويقع بها معبر الذهيبة، وازن الحدودي الذي يربط البلدين إلى جانب معبر رأس الجدير الذي يقع في ولاية مدنين، وتحدها غربا الأراضي الجزائرية، أما في جنوب ولاية تطاوين فيقع ملتقى الحدود الجزائرية الليبية وهي حدود موروثة عن الاستعمار لطالما شعر التونسيون بهضم المستعمر لحقهم في قسمة المجال الصحراوي بين شعوب المنطقة وذلك من خلال تلك الحدود الوهمية التي أنشأها هذا المستعمر وخاض بسببها التونسيون معارك مع الفرنسيين لعل أهمها معركة رمادة (1958) ومعركة العلامة 233 (1961).
الرحلة إلى تطاوين لها معنى آخر، حينما يصل الزائر إلى هذه المدينة يشعر كأنه في رحلة عبر الزمن إلى آلاف السنين، وتحديدا إلى عالم الديناصورات. وتحدثنا الآثار المكتشفة في مدينة غمراسن التابعة لمحافظة تطاوين عن قصة الديناصورات التي كانت تعيش في هذه المنطقة. وتبين أحدث الاكتشافات البيولوجية وجود 100 أثر لأقدام ديناصورات، يعود تاريخها إلى 140 مليون سنة، أعلنت عنه جمعية صيانة التراث في مدينة غمراسن قبل سنوات.
وحسب علماء الجيولوجيا فإن الاكتشاف هو الأول من نوعه ويعود إلى العصر الجوراسي. وتمثل آثار أقدام ديناصورات طبعت على مادة الكلس، الموجودة وقتها على ضفاف بحيرة، غمرت لاحقا بطبقة رملية فتاتية، لذلك لم يكن غريبا أن تحتوي المدينة على متحف للعلوم يعرض مجسمات للديناصورات الافريقية التي يعتقد العلماء أنها كانت تعيش في تطاوين في العصور القديمة.
انسجام سكاني
تحدها من الشمال ولايات مدنين، قابس وقبلي، وتقع جميعها في الجنوب التونسي في الأقاليم الصحراوية ومحيطها. وتضم الولاية سلسلة جبال مطماطة وسلسلة جبال الظاهر وتقعان في محيط صحراوي قاحل وجاف لكنه يضم بعض الواحات المتناثرة. ويقطن أغلب سكان الولاية في الشرق وهم خليط من الأمازيغ والعرب عاشوا في وئام وانسجام منذ قرون واختلطوا ببعضهم البعض حتى صعب تمييزهم.
يرجع البعض تسمية تطاوين إلى الأمازيغية ويؤكد على أنها صيغة جمع في هذه اللغة الشمال افريقية وتعني العيون ومفردها تيط أي العين.
تعتبر الدويرات وشنني قطوفة وتونكت والمقدميني والغمراسنية من أهم القبائل الأمازيغية في ولاية تطاوين، بينما يعد الودارنة، أولاد عبد الحميد والعواديد وأولاد سليمان وأولاد شهيدة وأولاد دباب، وأيضا قبائل العجاردة والدغاغرة والمقابلة والذهيبات الهلاليين، وأيضا قبيلة الجليدات وهم أدارسة أشراف من آل البيت، أهم القبائل العربية في الولاية. وحل العرب بداية مع الفتح الإسلامي ثم حلت أعداد كبيرة من أهل البيت النبوي بسبب ما تعرضوا له من اضطهاد في المشرق، وأخيرا حلت قبائل بنو هلال وبنو سليم التي أرسلها الخليفة الفاطمي في القاهرة بعد استقلال الصنهاجيين في القيروان بحكم افريقية (تونس اليوم وشرق الجزائر وغرب ليبيا).
تاريخ ضارب في القدم
تفيد الحفريات التي أجريت في تطاوين بوجود آثار لديناصورات قديمة تعود إلى حوالي 140 مليون سنة أي إلى العهد الجوراسي، وبعض هذه الآثار بادية بشكل جيد للعيان، والبعض الآخر مغطى بطبقات جيولوجية وفي حاجة إلى مزيد التنقيب من قبل الباحثين. وقد تم العثور في سنة 2015 على أقدام ديناصورات تعود إلى 160 مليون سنة وما زال هناك المزيد من المتحجرات التي تبدو في حاجة إلى الكشف وإماطة اللثام عنها من خلال الحفريات.
أما عن الإنسان فقد استوطن تلك الربوع منذ عصور ما قبل التاريخ وهو ما يؤكده وجود رؤوس سهام وبعض الأدوات الحجرية المتنوعة كان يستعملها إنسان تلك العصور الغابرة، وتوجد هذه السهام والأدوات في محطة تيارات وفي عمق الصحراء بعد أن تغير المشهد العام بسبب التغيرات التي طالت كوكب الأرض. كما توجد في الولاية كهوف صخرية، على جدرانها رسوم تتحدث عن الحياة اليومية والمعتقدات التي سادت في ذلك الزمن عند سكان هذه الجهة. وهذه الكهوف تقع في كل من وادي عين دكوك وفي منطقتي جرجر والدويرات، كما توجد كهوف أخرى قرب مدينة غمراسن الواقعة ضمن الولاية.
وتعاقبت الحضارات على منطقة تطاوين ومنها الحضارة القرطاجية لكن تأثير هذه الحضارة التي هيمنت على غرب المتوسط في عصر ما، لم يكن كبيرا على جهة تطاوين باعتبار أن القرطاجيين كانوا يحبذون التواجد بكثافة على البحار والمناطق الساحلية لأن نشاطهم الأساسي كان التجارة. وحتى الحضارة الرومانية لم تؤثر كثيرا في أمازيغ تطاوين رغم إنشاء الرومان لمبان ذات صبغة دفاعية مثل الحصون ومنها تلالت وحصن رمادة ومنشآت زراعية كالسواقي والسدود.
وعرفت ولاية تطاوين الفتح الإسلامي خلال القرن الأول للهجرة وهو ما جعل القبائل الأمازيغية مثل رفجومة ولواته ومطغرة ورتاتة وهوارة تتحصن بأعالي الجبال في قرى جبلية وأنشأت قلاعا في قمم الجبال مثل شنني وقرماسة والدويرات، وتركت هذه القبائل في البداية السهول للعرب القادمين من المشرق. ومع تواصل الاستقرار العربي في المنطقة وغزو بني هلال وبني سليم واستقرار بعض القبائل العربية على غرار أولاد دباب والمحاميد في الجنوب الشرقي، انصهرت القبائل الأمازيغية مع العرب الذين تخلوا تدريجيا عن حياة الترحال واستقروا في التجمعات السكنية الجديدة الناشئة.
لقد أنشأ سكان تطاوين من الأمازيغ والعرب القصور الجبلية ثم القصور السهلية وهي مواقع كان يحتمي فيها السكان في أقصى الجنوب التونسي من الغزو الخارجي في البداية، ثم تحولت إلى أماكن لتخزين الغذاء والإنتاج الزراعي بأنواعه. وتأسست حول هذه القصور لاحقا المدن وأهمها مدينة تطاوين عاصمة الولاية ومركزها والتي هي أكبر ولاية في تونس من حيث المساحة.
وتعاقبت على الولاية دول عديدة في العصر الإسلامي فكانت هذه المنطقة جزءا من ولاية افريقية الأموية والعباسية حتى حدود عهد هارون الرشيد والتي كان ولاتها يقيمون في مدينة القيروان التونسية. ثم خضعت الجهة للأغالبة والفاطميين والصنهاجيين الذين حصل الغزو الهلالي في زمنهم، فالموحدون الذين جاءوا من الغرب والحفصيون الذين حصل في زمانهم الغزو الإسباني ثم جاء العثمانيون والمراديون والحسينيون الذين حدث في عهدهم الاستعمار الفرنسي.
قاوم أهالي ولاية تطاوين الاستعمار الفرنسي مثل كل جهات البلاد التونسية، وانخرط أبناء المدينة في النضال المسلح والسياسي ضمن الحزب الحر الدستوري. وبرز عديد المناضلين والأبطال الأشاوس من أبناء المنطقة خلال الحقبة الاستعمارية وأيضا خلال المعارك التي خاضها الجيش التونسي بعد الاستقلال ضد الجيش الفرنسي الذي بقي يرابط في الجزائر ويحتلها ست سنوات بعد استقلال تونس وأراد الاحتفاظ ببعض المواقع في التراب التونسي.
ولعل أهم المعارك التي خاضها أهالي جهة تطاوين ضد المستعمر معركة رمثة التي حصلت في 25 ايلول/سبتمبر 1915 وقادها سعد بن عون، ومعركة مغني التي حصلت في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1915 ومن أبطالها الأخوة عبد اللطيف وخليفة بن عسكر والمدني الجليدي.
ومن المعارك التي شهدتها ولاية تطاوين بعد الاستقلال بين الجيشين التونسي والفرنسي معركة رمادة الخالدة التي حصلت سنة 1958 والتي استبسل فيها أبناء المنطقة لتحرير الجيوب المحتلة على التراب التونسي رغم توقيع اتفاقية الاستقلال. وقد استعمل الفرنسيون في تلك المعركة طائرات قادمة من الجزائر المحتلة وقتئذ لقصف رمادة من دون رحمة واستشهد في هذه المعركة المناضل التونسي الشهير مصباح الجربوع أصيل منطقة بني خداش التابعة لولاية تطاوين.
وتعد هذه المعركة التي أبلى فيها جيش الخضراء البلاء الحسن امتدادا تاريخيا لثورة الجنوب التي حصلت سنة 1915 والتي في سياقها التاريخي جاءت معركة رمادة. ويؤكد البعض على أن معركة رمادة هي رد على سلسلة الاعتداءات الفرنسية التي استهدفت الدولة التونسية المستقلة حديثا بتعلة ملاحقة المقاومين ن الذين يساعدون الثوار الجزائريين في حرب استقلالهم.
معالم الولاية
أهم معالم ولاية تطاوين على الإطلاق هي القصور الصحراوية أو الأمازيغية وأهمها قصر أولاد سلطان وأولاد دباب وحدادة، وتوجد هذه القصور تحديدا في الجنوب الغربي للبلاد (بين منطقتي مطماطة وتطاوين) حيث يصل عددها إلى حوالي 150 قصرا. والقصر التطاويني العجيب في معماره، هو عبارة عن مخزن فيه غرف تخزين تستعملها قبيلة أو عدة قبائل لحفظ المؤن. وهو مبنى جميل في شكله وغريب أيضا ويميز المنطقة بأسرها ولا يوجد له مثيل في تونس وخارجها، ويقصده السياح من جميع أنحاء العام. وهو دليل على قدرة الإنسان على التأقلم مع الطبيعة وحفظ مؤونته في ذلك الطقس الحار والجاف الذي يميز المنطقة.
بنيت هذه القصور في البداية في الجبال ثم انتقلت إلى السهول، وتقع قصور الجبال في مناطق وعرة يصعب الوصول إليها وغالباً ما يستخدم للتخزين ومن هذه القصور الجبلية قصر أولاد سلطان. أما القصور السهلية فتقع في السهول وتحتل مساحات كبيرة. وقد تم تصوير عديد الأفلام العالمية في هذه القصور الغريبة في معمارها على غرار الفيلم الأمريكي الشهير “حرب النجوم”.
وتوجد في تطاوين أيضا حصون وقلاع لعل أهمها حصن رمادة، وتلالت وحصن الفطناسية إضافة إلى تحصينات قديمة ومنشآت زراعية تاريخية وسدود ومواجل وفسقيات عتيقة ما زالت آثارها في كامل ربوع الولاية.
الاقتصاد
عرف أمازيغ تطاوين بالعمل في القطاع الفلاحي وزرعوا الزيتون والنخيل والتين واللوز وذلك رغم قلة الأراضي الصالحة للزراعة وندرة التساقطات والمياه باعتبار طغيان الصحراء والمناخ الصحراوي على الولاية. بينما امتهن العرب نشاط تربية الماشية وخصوصا الإبل وإنتاج الصوف والحليب واللحم. وازدهرت الصناعات التقليدية المتعلقة باللباس وخصوصا لباس المرأة الذي يميز الجهة وكذلك الأغطية والزرابي التقليدية والأثاث والتحف وأدوات المطبخ وغيرها.
وتطاوين هي ولاية النفط في تونس بامتياز، حيث يوجد فيها أهم حقول البلاد وهو حقل البرمة الذي يعتبر أيضا أقدم حقول النفط في البلاد. ويقدر إنتاج الولاية من النفط بما يزيد عن الثمانين في المئة من الإنتاج في البلاد أي حوالي 154 ألف برميل في اليوم.
أما المنشآت الصناعية في الولاية فهي حديثة ولا توجد صناعات كبرى وثقيلة ويقتصر الأمر على مصنع لتعليب المياه المعدنية ومصنع للجبس وآخر للآجر الأحمر ومقاطع للرخام والرمل. وتساعد المائدة المائية الثرية المتواجدة أسفل رمال الصحراء على صناعة تعليب المياه المعدنية وعلى السياحة البيئية أيضا. فتطاوين مقصد مهم للسياح الأجانب ويتوجه لها التونسيون للتنعم بمشاهد قصورها الصحراوية وثراء مخزونها من هياكل الديناصورات وأيضا لمياهها العذبة ولطيبة أهلها وكرمهم وحسن ترحيبهم بالضيوف.
وتقام في تطاوين عديد التظاهرات والمهرجانات الثقافية لعل أهمها مهرجان القصور الصحراوية الذي تنتعش به وبغيره من المهرجانات الصحراوية على غرار مهرجان الصحراء بدوز ومهرجان الواحات بتوزر، والسياحة التونسية عموما في موسمي الخريف والشتاء حيث يقل التوافد على المناطق الساحلية والشواطئ فيكون الجنوب الصحراوي هو الملجأ. ولا يقتصر الأمر على السياح الأجانب فالتونسيون يعشقون ربوع ولاية تطاوين ويقصدونها من مختلف أنحاء البلاد في رحلات منظمة تقوم بها وكالات الأسفار. وحصن تلالت ورمادة وحصن الفطناسية إضافة إلى تحصينات ومنشآت زراعية وسدود ومواجل وفسقيات ما زالت آثارها منتشرة في كامل المنطقة.
ويقبل السياح على الأكلات الرائعة التي تزخر بها الجهة ولكسكسي تطاوين مذاق خاص ولذة استثنائية تختلف عن باقي ربوع المغرب العربي. ومن بين الأكلات التي تشتهر بها الولاية أيضا حلويات قرن الغزال أو محشي تطاوين وهو بمثابة العجين المحشو بالفواكه ويحضر بطريقة يتقنها أهالي المنطقة دون سواهم.