يحتفل عديد الطوائف المسيحية في العالم بعيد الفصح الذي يسبقه أسبوع الآلام الذي يستذكر اعتقاد النصارى بقيامة السيد المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من صلبه، وتنتهي بذلك فترة الصوم الكبير الذي يستمر عادة أربعين يوما ليبدأ زمن القيامة لأربعين يوما أخرى.
يأتي هذا في حقبة زمنيّة تذكر البشريّة كلّها، بسبب الهلع الهائل الذي خلقه وباء كوفيد 19، لا بسرديّة المسيح فحسب، بل بسرديّات القيامة الأخرى الموجودة في أديان عديدة، وعلى رأسها الإسلام الذي ينتهي فيها العالم الذي نعرفه «الحياة الدنيا»، ويبعث الأموات جميعا فيحاسب المجرمون ويكافأ الأتقياء، كما يحتفل اليهود بالعيد، تحت مسمى عيد الفصح، معتبرين هروبهم من ظلم فرعون مصر انبعاثا لقومهم ودينهم.
دفعت الجائحة بأكثر من نصف الإنسانية إلى الاختباء من احتمال الموت، وللحجر في بيوتها، وتم عزل المدن والمناطق، وأغلقت الحدود بين أغلب بلدان العالم، وتباعد الناس عن بعضهم البعض فتوقّف أغلب أشكال الاجتماع الإنساني المعروفة، وبدلا من الاحتفال في الساحات والكنائس والمعابد تسمّر الناس خلف شاشات التلفزة، وخلت شوارع القدس وبيت لحم، التي شهدت ولادة وحياة وصلب المسيح، وأغلقت كنيسة القيامة المسمّاة على اسم المناسبة، لأول مرة منذ مئة عام، وسار رئيس أساقفة القدس للروم الكاثوليك، في «الأرض المقدسة» ليعبر مراحل درب الصليب، من طريق الآلام في البلدة القديمة للقدس، التي اختفى منها المصلون، في يوم الجمعة العظيمة، وهو اليوم الذي كان يشهد مسير الآلاف من المصلين في الطريق التي يعتقد أن المسيح سلكه نحو الصليب الذي علّق عليه.
تعانق بذلك شأن خاص بالديانة المسيحية، وبالمنتسبين إليها الذين يتجاوز عددهم المليارين وثلاثمئة مليون شخص، مع شأن خاص بالأديان الأخرى، وانجدلت آلام المسيح السائر في درب الآلام، مع آلام أهل هذه البلاد المنكوبة بالاحتلال والاستيطان، وكذلك مع آلام ومخاوف البشرية كلّها، بحيث حلّت على كوكب الأرض حالة «قياميّة»، تجمع الخاص بالعام، والفردي بالجمعي، والرعب الذي يشكله الموت الذي يجوب المعمورة مع الأمل بالخروج من هذا النفق المظلم.
تكتسي طقوس الموت والانبعاث، في الظروف التي نعيشها حاليا، معاني أعمق بكثير، فأغلب سكان العالم باتوا فعلا تحت وطأة الموت، فهل تدفع ظروف العزل والحصار وأشكال الضيق الاجتماعي والاقتصادي التي تخلقها إجراءات الحكومات المتبعة العالم للتفكير في ظروف العزل والحصار التي تعيشها شعوب أخرى، وخصوصا الفلسطينيين الذين يعيشون منذ عشرات السنين، بشكل أو بآخر، ما يعيشه الناس الآن في أغلب بلدان العالم؟
تخلق الأزمات أشكالا كبيرة من التعاطف الإنساني بين أفراد المجتمع وفئاته، وكذلك بين الشعوب المختلفة، كما أنه، من جهة أخرى، يشكل أنواعا من الرغبة بالاستئثار وحصر الامتيازات بمن يمتلكونها، وتتصاعد، لهذا السبب أشكال عصابية من رغبات الانعزال والعداء للآخر والغريب.
لقد أوقفت جائحة كورونا المستجد الاحتجاجات في العالم، لكنّها، للأسف، لم تستطع إيقاف هوس كيانات الاحتلال والتسلط بالاعتقالات والخطف والتعذيب، كما أنها عززت أشكال المراقبة التكنولوجية التي تتعامل مع المصابين بكورونا كالمطاردين السياسيين، وهو أمر قد تستمرئه السلطات حتى بعد الخلاص من الجائحة، فما بالك ببعض الأنظمة العربية التي لم تتوقف عن استخدام الطوارئ منذ عشرات السنوات، وفي الوقت الذي قامت به بعض الأنظمة بإطلاق آلاف المعتقلين، فإنها من جهة أخرى تتشدد كثيرا في إلزام مواطنيها بالحجر، ومنهم أشخاص مضطرون للعمل كي لا يموت أهاليهم من الجوع، وبذلك اجتمع معتقلو «طوارئ» كورونا، مع معتقلي السياسة والرأي الذين تتحفظ الأنظمة على إطلاقهم، رغم إطلاقها للمجرمين العاديين.
العالم يشهد «قيامة» جديدة فهل ستكون نهاية للعالم كما كنا نعرفه؟
إذا مات المرء قامت قيامته . وربنا يقول : قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .