منذ ثلاثة أشهر أو أقلّ بقليل، كانت مدن العالم، على تفاوتها، مفتوحة تعجّ بالحياة ليْلَ نهار.. والناس في حلّ وترحال.. هدير طائرات لا يَني ولا يتوقّف.. مطارات تدفع وتستقبل، ومدن تبلع.. ضجيج الدرّاجات البخاريّة.. ضوضاء السيّارات.. صخب الموسيقى في كوكتيل من الأصوات، حيث تدور الأجساد على نقْر يمازج الدم على صحنيْن: هذا يجمع.. وذاك يفرّق.. حيث يقبل الليل، أو هو يقطع وئيدا طريقه إلى الصباح؛ والزمن يُستعاد في الاسطوانة التي تدور بنا إلى الوراء.. إلى نيسان/ أبريل هذا العام «الكوروني»، حيث يد ما بحجم الكون تغطّي بلحاف جنائزيّ وجه القارّات الخمس.. حيث نلوذ بأجسادنا هذا العالم المغلق، بحدّه الخارجي أي الجلد، وحدوده الداخليّة من جهاز تنفّسيّ وأغشية مخاطيّة، وجهازه الهضمي؛ وهي كلّها مشرعة أبدا على تأثيرات البيئة أو الوسط الذي نعيشه ونعيش فيه؛ حتى ونحن نضع الكمّامات على وجوهنا، أو نطهّر أيدينا، أو نحشرها في قفّازات؛ وكأنّها ليست من أعضائنا.
إنّ عدد العظام والعضلات متماثل في يد القرد ويد الإنسان، ولكنّ يد الإنسان المتوحّش البدائي الأوّل كانت ـ كما كتب أنجلز ـ تستطيع القيام بمئات من العمليات، لا تستطيع أبداً يد أيّ قرد أن تقوم بها أو تقلّدها. ويد القرد، أي قرد، لم تصنع قط في يوم من الأيام ولو سكينا حجريّة متخلّفة.
لقد تحرّرت يد الانسان منذ زمن بعيد، وصار بوسعها أن تكتسب أكثر فأكثر مهارات جديدة. إن اليد ليست أداة العمل وحسب، وإنّما هي أيضاً نتاج العمل. فبفضل العمل استطاعت يد الإنسان أن تفجّر، من حيث هي قوة ساحرة، عجائب لوحات رفائيل وموسيقى باغانيني… ولكنّنا مع كورونا، صرنا نخشى أيدينا، فهي التي يمكن أن تنقل إلينا العدوى. نحن حاليّا في «الحصر»الصحّي، و«الحصر» أصوب لغة من «الحجر» التي تعني المنع، فيما «الحصر» يعني الحبس، وفي العربيّة يقال في المريض قد أحصر، إذا حبسه قاهر مانع، وأحصره المرض: حبسه. و«الحجر» ترجمة غير دقيقة للكلمة Confinement الفرنسيّة، وهي تُحمل بمشتقّاتها على معانٍ مثل الحصر والسجن والحبس والمتاخمة والمجاورة والانفراد والتوحّد والانعزال، والمحبوس والمقفل عليه، والهواء غير المجدّد؛ وليس فيها أيّ معنى من معاني «الحجر».
وأنا في الحصر، أكتشف أكثر كيف أنّ الجسد رموز تطويها اللغة وتنشرها.. تخفيها وتكشفها. وقد تعلّمنا أنّ العلاقة بين الجسد واللغة تنشأ في مرحلة الطفولة الأولى، من علاقة حسيّة بين جسد الطفل وجسد الأم، أو جزء جسده؛ تفتح فيه ثغرة تمتّع، ويستشعر الطفل الدعابة لذة تدوّنها الأمّ في هذا العضو أو الجزء. وربّما نما لديه إحساس بالفارق بين لذة موطنها الأذن مثلا ولذة موطنها العنق. وفي الآن نفسه تدوّن الأم في عضوها المداعب (الإصبع مثلا) حرفا حسيّا يحدّد التباين أو المسار في كل تمتّع. إنّ الإنسان في مراحل حياته كلّها «أمّ جسده الرؤوم» يُعنى به العناية نفسها، أي تلك التي كانت الأم توليه في الطفولة؛ أو يحبّه على طريقتها ويدركه بلغتها. وفي الحصر الصحّي نعثر على وجود أمّنا الغريب في كلّ صور الجسد. ويتأكّد أكثر كلّ منّا، وهو موكول إلى نفسه، أنّه موجود في جسده، وأنّه يحاوره؛ ولكن بدون أن يفطن إلى أنّ الحوار الحقيقي هو ذاك الذي بدأ مع جسد الأمّ، ويستمرّ مع هذا الجسد الغائب الحاضر، حتى النهاية.
عدد العظام والعضلات متماثل في يد القرد ويد الإنسان، ولكنّ يد الإنسان المتوحّش البدائي الأوّل كانت ـ كما كتب أنجلز ـ تستطيع القيام بمئات من العمليات، لا تستطيع أبداً يد أيّ قرد أن تقوم بها أو تقلّدها. ويد القرد، أي قرد، لم تصنع قط في يوم من الأيام ولو سكينا حجريّة متخلّفة.
في الحصر ندرك أنّ حساب الزّمن لا يستوي عند كلّ الخلق؛ فهو بُعْدٌ وهميّ، غير حقيقيّ، يختلف باختلاف الكائنات؛ ذلك أنّه يرتبط بالقيمة الحقيقيّة للشيء الذي نستطيع أن ننجزه خلال فترة معيّنة. ماذا يستطيع المرء أن ينجز في ثانية واحدة؟ تقريبا، لا شيء، إلاّ أن يرمش بجفونه أربع مرّات في أفضل الحالات. وماذا تستطيع البعوضة أن تفعل في ثانية واحدة؟ تستطيع أن ترفّ بجناحيها ستّمئة مرّة؛ أي مئة وخمسين مرّة ضِعف ما يفعله الإنسان؛ ولأنّ الوقت عند البعوضة لا يساوي الوقت نفسه عند الإنسان.
في الحصر نحن نغبط «قرد كولوبوس» الذي له أربعة أصابع فقط،، ويتميّز بشعر أبيض وأسود على وجهه وجسده. والإصبع الناقص في يده هو الإبهام، أو لا يظهر منه إلا جزء صغير جدا. ويفترض العلماء أنّ اختفاء الإبهام عند هذا النوع من القردة يساعدها أكثر في تسلّق الأشجار أو القفــز من شجرة إلى أخرى.
أيّ نيسان هذا؟ أهو نيروز (نيسان) أبي نواس:
یباكرنا النوروز في غلس الدجی
بنوْر علی الأغصان كالأنجم الزهرِ
أهو نيروز أبي تمّام:
سيقت إلى الخلق في النيروز عافية
بها شفاهم جديد الدهر من خلقهْ
أم هو نيروز البحتري:
وافيتـَه َوالوردُ فـي وقتٍ معـا
ونزلـتَ فيه مـَع َالربيع النازل ِ
وغدا بنُـوروزٍ عليك مُبـاركٍ
تحويلُ عامٍ إثـرَ عـامٍ حـائل ِ
مُلـّيته وعمـرت في بُحُبوحـةٍ
من دار مُلكك ألف حَـولٍ كامِل
أو نوروزه في قصيدته الشهيرة:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
وقد نبه النوروز في غسق الدجى
أوائل ورد كن بالأمس نوّما
يفتقها برد الندى، فكانه
يبثّ حديثا كان قبل مكتّما
ومن شجر ردّ الربيع بشاشة
وكان قذى للعين، إذا كان محرَما
أحل، فأبدى الريح، حتى حسبته
يجئ بأنفاس الأحبّة نعّما
أم هو نيروز ابن الرومي:
تملیتَ في النیروز عیش المُـنـَوِّرز
وعُمـِّرت إعمار السعید المفرّز
أم هو نيسان ابن المعتزّ:
كیفَ ابتهاجُك بالنّـوروزِ یا أمَلي
فـَكلّ ُ ما فیه یحكـیني وأحكیــِه
فـتارة ًكـلهیبِ النـّار في كـبــدي
وماؤُه كتـَوالـي عـَـبـرَتـــي فيه
أم هو نيروز المتنبيّ:
جَاءَ نَـيــرُوزُنَا وَأنتَ مـرَادُهْ
وَوَرَتْ بالـذي أرَادَ زِنـادُهْ
هَذِهِ النّـظْـرَةُ الـتي نَـالَـهَا منْـ
ـكَ إلــى مِثْلِـهـا مــن الـحَــوْلِ زَادُهْ
يَنْثَـنـي عَـنـكَ آخِـــرَ الـيَــوْمِ مِـنْــهُ
نَــاظِــرٌ أنتَ طَــرْفُـهُ وَرقـاده
أهو نيسان أبي العلاء المعرّي في «رسالة الهناء» التي لم تشتهر شهرة «رسالة الغفران»، وقد آخى بين آذار ونيسان:»حرسهما الله شهريْ ربيع، وما عنيت شهرين يعرفان في السنة بهلالين؛ ولكن أردت نيسان وأخاه، والحقّ يضح (يتّضح) لمن وخاه (طلبه)؛ فإنّهما ربيعا عام، يجيئان البشر بالإنعام: الأوّل يُجني الثمار، والآخر يُسني الأزهار»؟
أم هو نيسان ت.س. اليوت»أقسى الشهور نيسان/ يخرجُ حيَّ الليلك من ميّت الأرض/ ويخلط الذاكرةَ بالشهوة/ وبالوسميّ يهزُّ الجذورَ المسبوتة» (بترجمتي)؟ أم هو نيسان محمود درويش»على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة/ تردّد إبريل، رائحة الخبزِ في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس، أوّل الحبّ، عشب على حجر، أمّهاتٌ يقفن على خيط ناي؛ وخوف الغزاة من الذكرياتْ»؟
أم هو نيسان نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل» «إبريل شهر الغبار والأكاذيب» حيث البطل «أنيس» يقبع في حجرة طويلة عالية السقف، هي مخزن كئيب لدخان السجائر، حيث الملفّات تنعم براحة الموت فوق الرفوف.. وأنيس يكتب ويستمرّ في الكتابة بدون أن ينتبه إلى القلم وقد فرغ من الحبر؛ وإذا البيان الذي خطّه أسطر مكتوبة بوضوح، ثمّ يليها فراغ أبيض ليس عليه سوى آثار سنّ القلم؟
أم هو نيسان الفلسطينيّة ليانة بدر في»أرض السلحفاة»: «المارجريت الأبيض ذو القلب الليلكي المائل إلى الأسود، وزهرات «النسيم» الصفراء الهشّة منطوية على نفسها، كأنّها على خشية من رفّات الهواء ذاته، وزهرة وحيدة صفراء من»بنت القنصل الصفراء» التي كانت تحبّها أمّي؛ وبدت في حديقة الدار المسوّرة بجدار حجريّ طويل، وكأنّ نموّها حدث بصدفة عابرة، رغم أنّ انعزالها يوحي بكبرياء مبالغ فيه»؟ أم هو نيسان التونسي «أفريل» أو «أفرير» كما يسمّيه الفلاّحون»أفرير يخرج النبتة لو كانت في قاع بير»؟ ربيع الخرشف وبو حليبة وبوقرعون ونوّار بحيرة؟
الكائن البشري هو كما يقال أشبه بمادّة لزجة أو دبقة يمكن أن تسيل في الزمان والمكان في الآن ذاته.. وهو لا يغيّر اتّجاهه فورا أو حالا، وإذ نفكّر في التأثير عليه؛ يحسن أن نتنبّه إلى بطء حركته الذاتيّة؛ فلا نغيّر هيئته أو نحوّلها بفظاظة وعنف، كما لو أنّنا نصلح بضربات المطرقة عيوب تمثال من المرمر.. لذا أقول وأنا مثل كثيرين في «الحصر» الصحّي، اختيارا منّي منذ أسابيع.. للحلزون: لأنّك شبيهي.. تقيمُ دائما في جوفِ أنبوبة صدفيّة.. لأنّك شبيهي.. تحبّ أن تنساح.. عند سواحل البحار وضفاف الأنهار، لأنّك شبيهي.. تخرج بنصف بدنك.. من جوف تلك الأنبوبة.. وتزحف يَمْنة.. ويَسْرة.. كأنّك تطلب شيئا ما.. لأنّك شبيهي.. لا تنبسط إلاّ إلى اللّين والرّطوبة.. لأنّك شبيهي.. تغوص في جوف تلك الأنبوبة الصّدفية.. كلّما أحسستَ بخشونة.. أو صلابة.. لأنّك شبيهي.. تنساحُ.. وأنت تجرّ بيتك معك.
٭ كاتب من تونس
أشكرك د/ منصف على استعراضك المفيد لهذه النصوص الراقية التي تجلى فيها شهر نيسان في أشكال وصور مختلفة.
بعض الملاحظات في هذه العجالة..
أولا، بالنسبة لقولك بأن /«الحجر» ترجمة غير دقيقة للكلمة Confinement الفرنسية، وهي تُحمل بمشتقاتها على معان مثل الحصر والسجن والحبس والمتاخمة والمجاورة والانفراد والتوحد والانعزال، والمحبوس والمقفل عليه، والهواء غير المجدد؛ وليس فيها أي معنى من معاني «الحجر»/..
في الإنكليزية، لا يستخدمون هذا التعبير /السجني والحبسي/ الكئيب، حقيقة، ولكن يستعملون Isolation أو Self-Isolation، في المقابل..
ثانيا، بالنسبة لأستشهادك بأشعار كل من أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز والمتنبي، يبدو أن كلمة «النيروز» أو «النوروز» لها علاقة وطيدة ومباشرة بما يقتضية معناها عادة، أي «أول يوم من أيام السنة الشمسية عند الفرس، وهو ما يوافق الحادي والعشرِين من آذار» أو «عيد النيروز أو عيد النوروز، بوصفه
أكبر الأعياد القومية للفرس، وهو عيد الربيع»..
ثالثا، كل ما استشهدت به من أشعار/أقوال من محمود درويش ونجيب محفوظ وليانة بدر إنما هو مستوحى استيحاء مباشرا أو غير مباشر من شعر ت.س. إليوت وليس من أشعار أولئك الشعراء القدامى /ربما باستثناء المعري الذي يخاوي بين شهري آذار ونيسان/.. !!
** لأستشهادك
** لاستشهادك
بعض الملاحظات في هذه العجالة..
أولا، بالنسبة لقولك بأن /«الحجر» ترجمة غير دقيقة للكلمة Confinement الفرنسية، وهي تُحمل بمشتقاتها على معان مثل الحصر والسجن والحبس والمتاخمة والمجاورة والانفراد والتوحد والانعزال، والمحبوس والمقفل عليه، والهواء غير المجدد؛ وليس فيها أي معنى من معاني «الحجر»/..
في اللغة الإنكليزية، لا يستخدمون هذا التعبير /السجني والحبسي/ الكئيب، حقيقة، ولكن يستعملون Isolation أو Self-Isolation، في المقابل..
ثانيا، بالنسبة لاستشهادك بأشعار كل من أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز والمتنبي، يبدو أن كلمة «النيروز» أو «النوروز» لها علاقة وطيدة ومباشرة بما يقتضية معناها عادة، أي «أول يوم من أيام السنة الشمسية عند الفرس، وهو ما يوافق الحادي والعشرِين من آذار» أو «عيد النيروز أو عيد النوروز، بوصفه أكبر الأعياد القومية للفرس، وهو عيد الربيع»..
ثالثا، كل ما استشهدت به من أشعار/أقوال من محمود درويش ونجيب محفوظ وليانة بدر إنما هو مستوحى استيحاء مباشرا أو غير مباشر من شعر ت.س. إليوت وليس من أشعار أولئك الشعراء القدامى /ربما باستثناء المعري الذي يخاوي بين شهري آذار ونيسان/.. !!
أخي منصف،
نسيت أن أبدي إعجابي الشديد بترجمتك لشعر ت.س. إليوت:
[«أقسى الشهور نيسان/ يخرجُ حيَّ الليلك من ميّت الأرض/ ويخلط الذاكرةَ بالشهوة/ وبالوسميّ يهزُّ الجذورَ المسبوتة» (بترجمتي)؟]
وعلى الأخص:
«الوسمي» مقابل spring rain
«الجذور المسبوتة» مقابل dull roots
حبذا لو استبدلت الفعل «خلط» بمقابل أكثر شاعرية، في السياق، نحو: «مذق» «مشج» «ملث»، إلى آخره.
شكرا صديقي حي بن يقظان. ملاحظاتك صائبة كلها. ويسعدني أن أستأنس بها في ما يتعلق بقصيدة اليوت