طارق بشاشة: بداية كان الاستغراب ومن ثم الإصغاء وبعدها امتلأت الشبابيك

زهرة مرعي
حجم الخط
1

بيروت-“القدس العربي”: ولد وترعرع طفلاً وشبّ في حارات صيدا القديمة، ولم يغادرها إلا في ثلاثينيات العمر. هناك حيث البساطة والطيبة والاطمئنان، بدأت مواهب طارق بشاشة بالظهور، وكذلك نما في داخله إحساس التعاون والتعاضد الاجتماعي حيث يجب. وكان للكشّاف الذي انتمى إليه دوره في وضعه على سكة تلك المواهب، وكذلك في تنشئته على مبدأ التضحية في سبيل الآخرين حين يحتاجون.

يحمل بشاشة إجازة في العلوم المسرحية ويُدرّس المسرح لتلامذة المرحلة المتوسطة في المدارس الرسمية. ويدرّس الموسيقى للتلامذة السوريين في مخيمات البقاع من خلال جمعية “العمل للأمل” وذلك على آلتي الساكسوفون والكلارينت. ليس هذا وحسب، فقد أسس بشاشة “فرقة تجلّي للموسيقى الصوفية الحديثة” بالتعاون مع أربعة فنانين من سوريا. خمس سنوات مرّت على هذه الفرقة التي أحيت الكثير من الحفلات خارج لبنان، ولها مشاريع عدة أرجأتها جائحة كورونا.

مؤخراً نُشرت لطارق بشاشة في صحيفة لبنانية صورة وهو يعزف الكلارينت في أحياء صيدا القديمة داعماً صمود العائلات في زمن الحجر، بعدسة الزميل علي حشيشو. وهذه الصورة شكلت مدخلاً للحوار معه:

*بدوت عاشقاً رومانسياً يعزف لحبيبته من تحت النافذة، إنها مفارقة في زمن كورونا الذي أخلى الشوارع. كم استأنس أهل صيدا القديمة بموسيقاك؟

**يمكن القول إنها صورة تجمع بين الرومانسية والواقعية. ليلعب أحدنا الموسيقى في ظل أزمة كالتي نعيش يحتاج إلى الرومانسية المنفردة بين العازف وذاته. على جبهة الواقع يشكل هذا العزف دعماً نفسياً للناس الملتزمين الحجر المنزلي. ومن جهتي أتكئ على الجدار داعماً ذاتي. إذاً صلتي بذاتي يراها الناس من شرفاتهم وتشكل لهم حالة الدعم.

*عملياً حين كنت فتياً في تلك الشوارع التي تحفظها عن ظهر قلب هل عزفت بناء لمشاعر عشتها واقعياً؟

**يضحك ويقول: لم يحدث. عندما بدأت تعلُم الموسيقى كنت أعزف وحيداً في منزلنا، وكان إحساسي يقول بأني أعزف لإحداهن وليس بالضرورة أن تكون معروفة وواضحة المعالم والهوية. فالتعبير العاطفي تحمله نغمات الموسيقى.

*وماذا عن مشهد ناس الحارات العتيقة وهم يسمعون موسيقاك في زمن الحجر المنزلي؟

**منذ الحرب الأهلية ومن خلال الكشاف المسلم الذي نشأت فيه منذ الصغر، اعتدت أن أكون مع الناس في أزماتهم. شكل الكشاف الحافز المباشر في حياتي كي أتعلم الموسيقى. ولهذا وجدت ضرورة للعزف في هذا الزمن الاستثنائي. حتى الآن تواجدت في أحياء صيدا القديمة خمس مرات. البداية كانت استغراباً من الناس لهذا الفعل، رغم أن الغالبية العظمى منهم تعرفني. بعد الاستغراب والسؤال المرسوم على الشفاء انتقلوا إلى مرحلة الإصغاء. ألعب الموسيقى والشبابيك تمتلئ بالناس من مختلف الأعمار. ومن ثم نتساير ونسأل عن الأحوال، فقد سبق القول إن أغلبهم يعرفني.

*هل تشعر بحاجة الناس لمن يتواصل معهم من الشارع؟

**طبعاً. والمفارقة أن أكثرهم من النساء والأطفال، في حين أن الشباب يتتبعون الموسيقى التي أضعها على فيسبوك. يمكن القول إن العزف في حارات صيدا القديمة كسر الروتين الذي فرضه الحجر الصحي. ولهذا انتبه الناس لصوت الموسيقى وتفاعلوا معه.

*هل يختلف صدى الموسيقى وتقبلها في لحظات الحجر الصحي؟

**ما تقولينه صحيح. وقد ذكرني بالمسحراتي الذي شاركت فيه كثيراً خلال إقامتي في صيدا القديمة. في الليل ولحظات الهدوء نعم يختلف صوت الموسيقى. في المكان الواسع والمفتوح صدى الصوت مختلف تماماً. الزواريب العتيقة تشبه إلى حد كبير هندسة الصوت المطلوبة، ولهذا نكهة الموسيقى فيها أجمل.

*بماذا تُخبرك صيدا القديمة التي كبرت فيها؟

**تحكي لي الكثير، إنها الكتاب المفتوح على ذكريات جميلة عن مكان الولادة والنشأة. تركتها ولم أبتعد كثيراً، وبقيت أدرِّس الموسيقى في المدرسة الوطنية الكائنة في صيدا القديمة. كل مطرح من صيدا القديمة هو أنا. وعندما أمر قرب بيتنا في حي ضهر المير يبادرني إحساس بضرورة المناداة على الجيران رغم أن المبنى بات فارغاً.

*هل تفكر بمشارع أخرى في حال طالت فترة الحجر المنزلي؟

**حضوري في زمن الحجر المنزلي ليس مقتصراً على الموسيقى، بل أشارك في أعمال الإغاثة وتوزيع المساعدات العينية على المحتاجين. وإن طال الحجر ربما نشكل فرقة بحيث نعزف مجتمعين مع مراعاة المسافة الآمنة بيننا، وتكون الشوارع الخالية مسرحنا المتحرك.

*تعددت قدراتك في التواصل مع الآخرين منها العلاج بالدراما والمسرح وكذلك عزف الموسيقى. أي منها يأتي في الطليعة؟

**أتعامل معها حسب الحاجة. ففي عدوان تموز/يوليو 2006 كان العلاج بالدراما مطلوباً للتخفيف من متاعب الأطفال. عندما يعبّر الأطفال عن تجاربهم خلال الحروب يرتاحون. كما سافرت إلى مصر للعمل مع الشباب الذين شاركوا في ثورة 25 كانون الأول/يناير عبر العلاج بالدراما، وكذلك للمشاركة بعروض مسرحية في مصر.

*كنت نشيطاً في مصر كما قرأت في أرشيفك؟

**أزور مصر منذ سنة 2010 وأتعاون مع مؤسسة التعبير الرقمي العربي التي تنظم نشاطات للفتية منها التصوير، والمسرح، والسينما، والكوميكس، والموسيقى، وجميعها أدوات للتعبير. وبتعاوني مع هذه المؤسسة اقترحت المسرح كجزء أساسي للتعبير. وكان ظاهراً بعد الثورة أن المسرح شكل فسحة واسعة للتعبير في مصر وخاصة للفتية بحيث أتيحت لهم فرصة الحديث عن أفكارهم وكسر حاجز الخجل.

*علمت أنك تساعد الأطفال على اكتشاف الموسيقى وليس تعليمهم. هل من توضيح؟

**ببساطة تامة عندما نكون بصدد تعليم الطفل الرسم نعطيه ورقة وقلماً فينطلق في الخربشة. إذاً هي العلاقة الأولى التي تجمعه بالورقة والقلم. والموسيقى تشبه الرسم، نعطيه آلة موسيقية ونطلب منه البدء، وعندها يُفرغ الفوضوية التي في داخله، ومن ثم نبدأ التحديد والتركيز فنطلب منه عزف جملة تعجبه. الموسيقى ليست صوت الآلات فقط بل هي صوت موجود داخلنا. ونحن نتفاعل مع الأصوات التي تعطينا إياها الآلات الموسيقية، لأن الموسيقى موجودة داخل كل منا، لهذا ينزعج المتلقي من النشاز. والسبب أن النشاز لا يحاكي ما في داخلنا.

*وهل للطفل قدرة تحديد النشاز من عدمه في الموسيقى؟

**الطفل شديد الإحساس نحو كل شيء متحرك. عندما يسمع أغنيات حزينة يبكي. مع العلم أنه لا يعرف مقام الموسيقى ولا معنى كلمات الأغنية، وما حدث أن اللحن المعتمد حرّك الموسيقى الكامنة داخله.

*تكتب الشعر وتعزف الموسيقى هل أحدهما يخدم الآخر؟

**الشعر عبارة عن إيقاع وصورة. ثمة صورة نجسدها عبر الكلمة وأخرى عبر النغمة. الصورة التي نجسدها بالكلمة يمكننا أن نسخها بـ”كوبي بيست” من خلال النغمة. ومن يلعب الموسيقى يجب أن يعي صورة الكلمة.

*كمختص بالعلاج بالدراما هل تعمل لدمجها مع العلاج بالموسيقى؟

**أحياناً نعم، وفي عملية التعليم تحديداً. قد يؤدي سماع مقطوعة موسيقية كلاسيكية لتحريك صور محددة لدى شخص ما. صور يعجز أحدنا عن استخراجها من داخله بتلقائية، وكان للجملة الموسيقية دور المستفز لها، وبالتالي التكلم عنها. إذاً من المؤكد أننا قادرون على التعبير عن تلك الصور من خلال جملة موسيقية. وقد حصل خلال دورة تدريبية حول كيفية توجيه الأطفال نحو اكتشاف الموسيقى، وكان الطلب من المتدربين أعطاء جمل موسيقية تعبر عن الفرح والغضب والعزلة وسوى ذلك. وهكذا عبر هؤلاء المتدربون رغم كونهم ليسوا موسيقيين. وجميعنا يعرف أن التعبير عامل مساعد للتخلص من أزمات أو مخاوف أو إحساس بالعجز يعيشها الإنسان. فعندما مرّ الشاعر الكبير صلاح جاهين بأزمة إحباط سُئل بعد عودته من العلاج “كيف تخلصت منه؟” فكان جوابه: “صاحبتو”.

*في مرحلة العزل والحجر والفقر الذي عمّ الناس كم نحتاج للعلاج بالدراما؟

**بالطبع الحاجة ماسة لمختلف العلاجات، فنحن نعيش أكثر من مشكلة. أهم تلك المشاكل تبرز على صعيد الأسر والثنائيات. فالأزواج متواجهون طيلة اليوم، والشحن الداخلي الذي يعيشه كل منهما يتم تفريغه بالآخر. الأزواج أمام حلين إما يفجرون المشاكل أحدهم بوجه الآخر، أو يلجؤون للحوار. نحن في واقع حجر معلن، إنما داخل العائلات فجميعنا يخضع لعمليات احتكاك لم يسبق لها مثيل في حياتهم السابقة. الأب يحتك بأبنائه، والزوج بزوجته، والأم بأبنائها. الزمن الطويل الذي يمضيه كل منهم بمواجهة الآخر سوف يعيد الحسابات. على الصعيد الاجتماعي والشخصي العائلات والأفراد في عملية مراجعة وتقييم على المستوى الفردي والعام. فعندما يكون أحدنا مطحونا في دورة الحياة لا ينتبه لتفاصيل كثيرة تتواجد بتلقائية في حياته. على صعيد مقابل فمن كانوا يخوضون غمار الثورة في الساحة اللبنانية هم حالياً في عملية إعادة حسابات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول oks:

    قدم ما استطاع ان يقدمه ولم يبخل على الناس ولو بالموسيقى التى تنبعث من الالة الموسيقية لتناشد الارواح البقاء في البيوت والاستماع و الاستمتاع بدل من الموت الذى يترصد في كل بشر . شكرا للعندليب .

إشترك في قائمتنا البريدية