كنت أعرف منذ حوالي العام أنه في الطريق إلى السماء، لكنني كما يحدث دائما حين ينتهي اللقاء مع جميل عطية إبراهيم أشعر بأنني في البداية. لم يكن ذلك يحدث إلا بسبب حالة الرضا التي تتركها في روحك ابتسامته العذبة، وانشغاله بالشيشة التي يدخنها، كأن العالم لا يساوي أكثر من عدة أنفاس من الدخان.
هو جميل عطية إبراهيم صاحب الروايات مثل «ثلاثية 1952- أوراق 1954- 1981»، التي من السهل أن تقول إنها تلخص مآل مصر بين الحكم العسكري، ثم السلفيين والوهابيين، لكن من المهم جدا أن تدرك أن بناءها الفني طموح كبير. التجديد في الكتابة هو ما يشغل جميل، إلى جوار موضوعات الكتابة في كل رواياته. هو الذي سافر في الأزمنة بين رواياته من ثورة 1919 حتى الآن، والذي سافر في الأزمنة بين المغرب فكتب رواية «أصيلا» وبين جنيف فأبدع «شهرزاد على بحيرة جنيف»، هو نفسه يكتب رواية المهمشين «النزول إلى البحر». سأترك للنقاد الحديث الأجمل عن قصور جميل الفنية، التي بناها في رواياته، وأتحدث قليلا عنه هو صاحب الرحلة الكبيرة والعميقة في الحياة، التي لخصها المفكر القانوني والسياسي نور فرحات، في كلمة له على الفيسبوك يوم وصل خبر وفاة جميل، يوم الجمعة الماضي العاشر من هذا الشهر إبريل/نيسان، وأستعير منها بعض عباراته «ويتوالى رحيل الأحبة والأصدقاء، الذين أثروا حياتي على المستوى الشخصي وحياة المصريين وملأوها بالمعنى والخير والقيمة والجمال».
تزاملت مع جميل كاتبين في مجلة «المصور» في التسعينيات. هو يكتب في الأدب وأنا أكتب في الاجتماعيات، وكانت معرفة حميمة على الورق. جميل عطية إبراهيم كان كالعصفور الذي يغرد دائما، ويطير دائما ولا يستقر على حال. حصل على شهادات دراسية متباينة، ونتيجة لذلك عمل في مهن متعددة. فقد عمل قبل تخرجه من الجامعة كاتب حسابات في مصنع للنسيج في شبرا الخيمة، ومدرساً للموسيقى للأطفال، ومدرسا للحساب والجبر والهندسة للمراحل الإعدادية في مصر والمغرب.
رحل إلى سويسرا وتزوج وعاش في بازل، وعمل في الترجمة والصحافة.
كان جميل قلبا مصريا ينبض بالمعرفة والحب والمشاعر في الغربة. ملخص رؤيته لتاريخ مصر ما بعد عبد الناصر أنه تاريخ يسعى فيه حكام مصر حثيثا لمحو ذاكرة مصر والمصريين. استبدل المصريون في عصر السادات ذاكرتهم وتراثهم الوطني بتراث خليجي، وعادات صحراوية، وكأنه لم تكن في مصر حضارة قبل غزو رياح ثقافة الصحراء لها. عندما تفقد الأمة ذاكرتها يسهل قيادها، ولا تقدم أو تماسك لأمة بلا ذاكرة فالذاكرة هي الهوية».
كان جميل قلبا مصريا ينبض بالمعرفة والحب والمشاعر في الغربة. ملخص رؤيته لتاريخ مصر ما بعد عبد الناصر أنه تاريخ يسعى فيه حكام مصر حثيثا لمحو ذاكرة مصر والمصريين.
حين صار جميل في بيت المسنين، كتب لي الفنان يوسف ليمود، الذي يعيش هناك في بازل، التي يعيش فيها جميل، والذي تعود على زيارته، أنه حين استقبله أول مرة كان يتذكرني كثيرا من بين كل الناس. من يومها صار يمشي معي أكثر مما كان يمشي معي في الحضور. عرفته مبكرا منذ صدور مجلة «غاليري 68» التي دشنت ما يسمى بجيل الستينيات، وصرت طوال حياتي لا أرى ذكرا له من بينهم إلا نادرا وأندهش. كتبت في ضيق من النفي الذي يتعرض له منذ خمس سنوات أو ست سنوات متسائلا، لماذا لم يحصل جميل عطية إبراهيم على أي جائزة من جوائز الدولة المصرية، وهو جدير بها كلها، بدءا من جائزة التفوق إلى جائزة النيل مرورا بجائزة الدولة التقديرية، لكن لا فائدة في الكلام. بعدها قابلني صدفة في القاهرة وكعادته ابتسم وأخذته في سيارتي لأصل به إلى بيته في منطقة العمرانية في الهرم وقال لي لا تشغل بالك. تزاملنا وقتا قصيرا في نهاية السبعينيات في العمل في الثقافة الجماهيرية. كان هو يعمل في إدارة للتفتيش والمتابعة للأنشطة خارج القاهرة، ووجدته مرة يضحك كعادته. كان في زيارة إلى إحدى محافظات الصعيد لمراقبة الأوراق الرسمية للعمل، وحين قدّم نفسه إلى مدير مديرية الثقافة هناك باسم جميل عطية، سكت المدير لحظة ثم سأله هل يمكن أن تقول لي اسمك الثلاثي. فهم جميل طبعا أنه يريد أن يعرف ما إذا كان مسلما أم مسيحيا، فابتسم وقال له جميل عطية إبراهيم، فارتبك الرجل أكثر فضحك جميل وقال له لن تعرف ديانتي، لأنني أنا أيضا لا أعرف، دعني أطلع على أوراق نشاطكم. ثم قال للرجل ضاحكا أنا مسيحي لكن هل سيكون للدين دخل في تقييم عملكم؟ هات الأوراق.
عاد وحكى لي الحكاية وهو يضحك، وكان الوقت ولا يزال، هو وقت المد الطائفي بكل عنفوانه. حدث عام 1992 أن كنت مدعوا إلى باريس مع عدد من الكتاب. كان هو مدعوا من جنيف. كان ذلك عام 1992 وكانت الدعوة من معهد العالم العربي بمناسبة معرض الكتاب السنوي، وكان وراءها بدر الدين عرودكي، وفاروق مردم بك. نزلنا من الطائرة أنا وأصلان فأخذتنا فتاة إلى فندق رويال كادينال القريب من معهد العالم العربي. لم أكن أدري أن جميل مدعو من جنيف، وكذلك بهاء طاهر. ما إن صعدت إلى غرفتي حتى بدأت أخلع ملابسي لأدخل تحت الدُش لأبدأ المشي في الشوارع التي أشعر بقدميّ تريدان أن تسبقاني إليها. قبل أن أدخل للاستحمام دق جرس الباب. فتحته لأجد أمامي جميل عطية إبراهيم، هللت فرحا فقلت له أن ينتظر حتى أنتهي من الاستحمام. سألني أين إبراهيم أصلان قلت له في الغرفة المجاورة. قال لا تتأخر لأنني أريد أن أعزمكم على طعمية جميلة جدا. ضحكت وقلت له يا جميل لقد تركنا الطعمية منذ خمس ساعات. يا عم إعزمنا على «فروي دي مير» مثلا. انتهيت ونزلنا نحن الثلاثة لنمشي إلى السان ميشيل، وإلى نوتردام دي باريس وغيرها. في الطريق همس لي أصلان ضاحكا «سألني عن سجائر كليوباترا فتحت علبة، دخن عشر سجائر في ربع ساعة تركت له العلبة. عشر سجاير في ربع ساعة وماكملش ولا سيجارة». مشينا إلى السان ميشيل، وفي الطريق اشترى جميل علبتي سجائر مارلبورو أعطي أصلان واحدة. ليس ذلك فقط. صار كل يوم في الصباح، فهو يقيم معنا في الفندق نفسه، ينزل معنا لنشرب قهوتنا في مقهى النجمة الذهبية التي حملت عنوانا آخر الآن لا أذكره، ويشتري علبتين مارلبورو ويعطي لأصلان واحدة. كان جميل مع إبراهيم يشرب سجائر كليوباترا بسرعة، ولا يكملها لاشتياقه لها من مصر الغائب عنها. حكايات كثيرة جميلة يمكن تذكرها عن جميل، لكن ما كان يضايقني دائما أنه لم يحظ بأي تكريم مناسب. والحمد لله اشتعلت مواقع التواصل بالثناء عليه والكتابة عنه، فكتب يوسف ليمود مقالا يقطر إنسانية عنه، وكتب يسري عبد الله كذلك، وكتب العشرات ممن التقوا به ولو مرة وكتبت أنا «من لم يعرف جميل عطية إبراهيم لم يعرف شعور المسيح وهو فوق الصليب يهتف إلهي لا تنسني، وفاتك حملتني إلى هذا البرزخ يا جميل، عشت أراك في ظهورك وأسمعك وأراك في الغياب، لا تلمني عرفت الخبر فابتعدت حتى لا تحجب دموعي بسمة الرضا التي كانت دائما على شفتيك يتسع بها الفضاء».
٭ روائي من مصر