تعامل الدولة العربية مع شبابها

حجم الخط
4

■ من المتفق عليه في الكثير من الأدبيات السياسية العربية أن نظام الحكم الذي تدار به الدولة العربية في أغلب الوطن العربي، ومنذ القدم، قائم على مفهوم حكم الغلبة وكملكية خاصة، حيث يعتبر ما فوق وما تحت وما في الدولة موروثا خاصا.
من هذا المنطلق تصبح الدولة دولة ريعية، توزع خيراتها من قبل الحكم، وعلى أساس مقدار الولاء والزبونية والانقياد لصاحب الثروة.
ولذا، عندما طرح في اجتماع ضم خبراء ومفكرين، سؤال يتعلق بماهية السياسات التي تتبناها الحكومات العربية تجاه رعاية الشباب العرب، وماهية نتائج تلك السياسات، كان جوابي الشخصي بأنه، في الواقع، لا توجد سياسات، وإنما توجد سياسة واحدة، تتلخص في ضرورة احتواء شباب الأمة تحت جناح سلطة الحكم. قد تتجلى تلك السياسة في صور شتى، ولكنها تبقى في حقيقتها سياسة واحدة.
وتحقق الدولة العربية ذلك الاحتواء من خلال أدوات وطرق متعددة، فمن خلال وزارات الشباب والرياضة يتمُ الصهر والإشراف، الثواب والعقاب، الأولويات والممنوعات والتوجيه والإغواء، ولذلك فالرياضة، البعيدة عن السياسة والتساؤلات، تحظى بالرعاية الأكبر، بينما الثقافة المليئة بالتساؤلات وإيقاظ الفكر والضمير، تحصل على الرعاية الأدنى.
أما لعبة الجزرة والعصا فتمارس من خلال الأجهزة الأمنية المحصية لكل شاردة وواردة، لكل الطموحات والأحلام والمواقف.. فالدخول إلى الجامعات والحصول على البعثات، وامتلاك جوازات السفر، والإلتحاق بوظيفة، والترقيات وأمثالها يقررها التقرير الأمني وتوصياته وتحذيراته.
وفي عالم الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، يمرر إلى ذهن الشاب الغض البريء كل ما يوجه ويسيطر ويخدع ويشوش ذهنه ومشاعره ونفسيته، ليبقى مستسلما للوضع الذي يعيشه وقابلا لمحدداته ومبررا لنواقصه، ثم هناك مؤسسة فقهاء السلاطين بعدم الخروج على طاعة ولي الأمر لكيلا تكون فتنة. وإذا أريد غمس المجتمع في فتنة طائفية فان لديها التاريخ وكتب التراث وأساطير الصراعات السابقة وكل الرمزيات والتفاسير الدينية لتغرف منها جميعا ما تشاء.
عن نتائج تلك السياسة أشرت إلى المفارقة المذهلة لحصيلة تلك السياسة الاحتوائية وأدواتها الهائلة، التي مورست عبر عقود طويلة منذ استقلال الدولة العربية.
الحصيلة التي تمثلت في ثورات وحراكات الربيع العربي، الرافضة لكل ما قامت عليه سياسة الاحتواء تلك، بل والرافعه لشعارات تغييرية جذرية كبرى.
لا يمكن تفسير تلك المفارقــــة إلاُ بالتأكيد على أن سكون شباب الأمة العربية عبر السنين لم يكن نتيجـــة بـــلادة فهم أو قبول بخطابات الاحتواء المتعــــددة. لقد أثبتت أكـــثرية شباب الأمة العربية بأنها كانت تختزن في داخلها خطابات أخرى هيأتها لذلك الألق الذي أضاء في سماء العرب قبل أربع سنوات.
لذا فان أي تقرير سيصدر من أي جهة بشأن تمكين الشباب العربي، يجب أن يشير إلى أن الخطابات السابقة، في شكل دساتير وقوانين لا تطَبق ولا تحترم، أو في شكل إعلام ترفيهي مضلل، أو في شكل توجه للولاء الخطأ أو للزبونية الانتهازية.. مثل خطابات كهذه ذهب زمانها. المطلوب هو الفعل الصادق الشفاف المبني على مبادئ المواطنة والعدالة والتساوي في الفرص، الفعل المعبر عن الحق الطبيعي والإنساني والإلهي، وليس عن المكرمات والاستجداء والعطايا المذلة للكرامة الإنسانية.
لنعد إلى المقدمة لنطرح السؤال التالي: هل دولة إرثية ريعية كهذه، مثقلة بنفقات عسكرية تزيد أحيانا عن ضعف المتوسط العالمي، مبتلاة بضعف وتخلف الإرادة السياسية لادارة النزاعات المذهبية والإثنية والقبلية، التي تتفاقم وتهدد الوجود العربي.. هل دولة كهذه يعتمد عليها لبناء جماهير شبابية عربية مستقلة في فكرها، حرة في ممارسة التزاماتها المدنية، مساهمة في عملية التنمية الإنسانية، متجددة في ثقافتها ومتفاعلة مع حضارة عصرها؟
دعنا نكون صادقين مع النفس، سواء تحدثنا عن الشباب أو المرأة أو الفقر أو الانتـــقال إلى عالم المعرفة أو أهداف الوحدة العربية والحرية، أو الاستقلال الوطــــني أو القومي، فاننا في النهاية سنعود إلى إشكالية الدولة العربيـــة التي عجزت عن أن تحل المسألة التي تقوم عليها شرعــــية سلطتها لتصبح شرعية ديمقراطية عادلة في الســـياسة والاقتصــاد والاجتماع والثقافة.

٭ كاتب بحريني

د. علي محمد فخرو

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سالم:

    This is one of the best column I read it in the last years.thank you

  2. يقول ريما كمال-عمان الأردن:

    (هل دولة كهذه يعتمد عليها لبناء جماهير شبابية عربية مستقلة في فكرها، حرة في ممارسة التزاماتها المدنية، مساهمة في عملية التنمية الإنسانية، متجددة في ثقافتها ومتفاعلة مع حضارة عصرها؟)مقال ممتازيضع النقاط على الحروف للأزمة المستعصية التي تمارسها دولنا عن قصد لمصالح السلطة ، ويعاني منها شبابنا المتطلع دائما للهجرة!! أبدعت يا أستاذ فخرو.أتمنى نشر المقال على منافذ التواصل الاجتماعي كما سأفعل الآن انشاء الله

  3. يقول Issa Mohamed, Jordan:

    Marhaba, I take my hat off for this real thinker who luctures us weekly promoting real tools how to advance our society. Thank you Dr. Fakhro

  4. يقول خليل ابورزق:

    مقال ممتاز وان كانت سياسة احتواء الشباب هي جزء من مشكلة الاننظمة المفروضة و التي ما زال وصف الكواكبي لها في 1902 ساريا “المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى
    نفسه كان إنسانا فصار إلها. ثم يرجع النظر فريى نفسه في نفس الأمر أعجز
    من كل عاجز وأنه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فريفع نظره
    إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش وما التاج وما الصولجان؟ ما هذه
    إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووسا وأنت غراب، أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجوما ورأسك سماء، أم تتوهم أن زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طني من هذه الأرض؟ والله ما مكنك في هذا المقام وسلطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا، وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المتكبر الحقيرالموقر كيف تعيش معنا!
    ثم يلتفت إلى جماهيرالرعية المتفرجين، فيرى منهم الطائشين المهللين المسبحين بحمده، ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم أموات من حين، ولكن يتجلى في فكره أن خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون بأن لنا معاشر ّ الأمة شئونا عمومية وكلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي.
    فإن وفيت حق الوكالة حق لك الاحترام، وإن مكرت مكرنا وحاقت بك العاقبة، ألا إن مكر الله عظيم.
    وعندئذ يرجع المستبد إلى نفسه قائلا: الأعوان الأعوان، الحملة السدنة، أسلمهم
    القياد وأردفهم بجيش من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغري هذا
    الحزم لا يدوم لي ملك كيفما أكون، بل أبقى أسريا للعدل معرضا للمناقشة منغصا
    في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطانا جبارا متفردا قهارا.”

إشترك في قائمتنا البريدية