عندما أطلق الشريف حسين إعلان ما سمي « بالثورة العربية الكبرى» بإيعاز بريطاني خبيث ضد السلطنة العثمانية والخلافة إبان الحرب العالمية الأولى لم يكن يعلم أن حلم المملكة العربية المتحدة من جبال طوروس إلى مشارف اليمن كابوس يحضر له ولهذه المملكة التي رسمت على رمال الربع الخالي، سرعان ما ستذروها رياح سايكس بيكو العاتية صفقة القرن العشرين اللعين، في أول عملية الحز بالسكين للخريطة العربية ورسم الحدود المخطط لها في الإليزية وداوننع ستريت وإنشاء دول يسبح ديكتاتوريوها بكرة وأصيلا بحمد سايكس – بيكو ويدافعون عن هذه الحدود «بالروح والدم» ويتقاتلون على بضعة كيلومترات نقصت أو زادت عن مسار الخرائط الاستعمارية، في الوقت الذي تتمدد فيه دولة بلفور وهرتزل على الخريطة العربية وتتخطى الحدود التي رسمها قرار التقسيم الأممي دون أن يكبح جماح آل صهيون أي زعيم عربي يمتشق سيف التحرير ويجاهر بقول يشبه كثيرا ما قاله الحمداني أبو فراس:
« نحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر».
الزحف نحو القبر
وفي واقع الأمر تزحف الأمة نحو القبر رويدا رويدا، حتى كأني أسمع المتنبي يقول:
« لا الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفكم ولا السيف ولا الرمح ولا القرطاس ولا القلم».
وتستفيق شعوب من غفوتها تطالب بإسقاط الرؤوس التي أينعت وحان قطافها، فسقطت رؤوس، وخشيت رؤوس أخرى من قطاف فصل إيناعها فغزت في دفع ما أمكن قرب حمامها وانصرامها بإيغالها في دماء الأفواه الجائعة، والنفوس المتعطشة للحرية والكرامة.
في مصر، في العراق، في سوريا، في ليبيا، في اليمن.. والحبل على الجرار في لبنان، في الجزائر، في السودان، إذ ملت الأمة من مقام أمراء أمرت بغير صلاحها، فمعرة المعري باتت هباء منثورا وقطع رأسه من رعاع الجهل الأسود، وتحولت بلاد الشام، بلاد الهلال الخصيب، بلاد الحضارات الأولى، إلى أكبر بقعة مخضبة بدماء أبنائها بعد أن امتشق الممانع الصامد المتصدي سيف قيصر الروس ورمح كسرى العجم ليجهز على ما بقي من حطام الناس، فبات سجين « وصيف وبغا يقول ما قالا له كما تقول الببغا»، وهل تفلح عرب ملوكها روس وصهاينة ويانكيون وعجم؟
صفقة القرن الواحد والعشرين
تقسم البلاد من الجزء إلى الجزيئ، ومن الدولة إلى الدويلة، ومن سايكس بيكو إلى ترامب نتنياهوـ بوتين.
صفقة القرن الواحد والعشرين، والحز بالسكين مرة أخرى في خرائط دويلات «بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان» فترفع ميليشيات عدن شارة النصر بإصبعي تشرشل وتعلن انفصالا بغطاء شفيف باسم « الحكم الذاتي» مدفوع الثمن يعيدنا إلى الانقسام بين شمال الإمامة، وجنوب الماركسية بقوالب جديدة يحركها الأخوة الأعداء. ليلتحق جنوب اليمن، بجنوب السودان، ويعلن عنه قريبا عضوا في الأمم المتحدة.
ويتحول «اليمن السعيد» إلى يمنين لا يعرفان من السعادة سوى ذكريات بلقيس سبأ عندما شمرت عن ساقها في حضرة سليمان. وينعي المقالح زمنا:
«غرقت في الضفة الأخرى حكايانا، فماضينا غريق، لم تعد أهدافنا واحدة، ورفيق العمر ما عاد الرفيق».
يجتمع القول، وتوحد الرؤى في كلمات قيلت من فيتوري السودان قبل أن يصبح سودانين:
يا أخي في كل أرض عريت من ضياها وتغطت بدماها..قم تحرر من توابيت الأسى»
توابيت الأسى، هي في اليمن، هي في السودان، هي في ليبيا العظمى كما سماها راحلها القديم، فانقسمت شرقا وغربا، تذكر بمملكتي روما: لبدة وصبراتة، واليوم بنغازي الشرق بزعامة الغازي على طرابلس الغرب لتنتهي ليبيا « العظمى» إلى ليبيتين بعد فشل أممي ذريع وتدخل كل من هب ودب، كباقي دويلات العرب، في بلاد النفط الرخيص القريب من أبواب الغرب، ومنطلق مستقلي قوارب الموت نحو المجهول.
وجاء كوفيد التاسع عشر، ليزيد في الطين بلة يقتل الناس كمستبدينا ويعطيهم حبل المدد كي يجمدوا حراك الشعوب الجائعة في العراق، الذي بات يقترب من دويلات ثلاث، كردية، وسنية، وشيعية، يغرق في الأزمات، يحكمه برلمان المحاصصة الطائفية تحركه أصابع واشنطن وطهران.
«ويسألني من أنت؟ خجلت أقول له.. قاومت الاستعمار فشردني وطني» قالها النواب شاعر العراق في مرثية الحزن الأبدي الكربلائي، وشرد عن بابل كجلجامش في أول ملحمة في التاريخ تشهد حضارة بلاد الرافدين. وتحكي حكايات ألف ليلة وليلة وبساط الريح فريد الذي لا يتوقف في الجزائر بلد المليون شهيد وأعظم ثورة في تاريخ العرب، وأجمل حراك ثوري في موعد أسبوعي دون كلل أو ملل فالشعب قال كلمة لا تراجع فيها رغم كوفيد سيئ الصيت، فالحرية والديمقراطية لا يقف في وجههما كوفيد ولا بسطال أمام إرادة شعب يريد الحياة، ولا بد أن يستجيب له القدر.
كاتب سوري