زيارة البشير للسيسي وإمكانية «المشاركة لا المغالبة»

قد يبدو هذا الموضوع خارج السياق المعتاد لما أكتب منذ ثورة كانون الثاني/يناير 2011 حيث يتم التركيز على حال المصريين بما لهم وما عليهم، وهو ما أتصور أن فيه صلاحهم وصلاح الأمة والمنطقة، وقد أكون مخطئا، لكن ما زالت هذه قناعتي حتى يثبت العكس . وأحاول قدر المستطاع تجنب الوقوع في فخ الاستقطاب، والتعامل بلغة الفرقة ومفردات الانتقام ؛ السائدة منذ 2011 . وموضوعنا ينتقل من الشأن المصري الخالص إلى العلاقة المصرية السودانية، وقد كانت مسعى ومسرى الرئيس عمر البشير في زيارته الأخيرة للقاهرة، ولم نعتد أن تكون زيارة رئيس مصري للخرطوم أو رئيس سوداني للقاهرة مجرد حدث عابر . فغالبا ما تفتح أبواب المواءمات الوطنية والسياسية، وتغلب المصالح العليا للبلدين؛ في محيط وطني وإقليمي ودولي متفجر ومعقد . ولوحظ أن الزيارة لاقت ترحيبا من الدولة ومؤسساتها بشكل لافت، وإن لم يكن الترحيب على نفس الدرجة بين الأحزاب الانعزالية والطوائف المغلقة والمذاهب المتعصبة، ومع حضور الدولة وُجد الجمهور العريض نسبيا وكان سعيدا بالزيارة ومتفائلا بها .‬
كانت أجواء ما قبل الزيارة ملبدة بغيوم النزاع على مثلث حلايب وشلاتين، وتأثير تصريحات الرئيس البشير نفسه بأنه لن يتنازل عن ذلك المثلث، وإن استبعد خوض حرب بسببه، وقد يلجأ للأمم المتحدة إذا لزم الأمر . وفي المقابل شنت صحف وأجهزة إعلام مصرية حملة على هذه التصريحات وعلى السياسة السودانية واتهمتها بموالاة »الإخوان المسلمين »، ودعم «الإرهاب »!!.‬
في الماضي كانت المشاكل المصرية السودانية تواجه بقدر أكبر من الحكمة وضبط النفس، وحين أثيرت مشكلة حلايب وشلاتين من قبل، وجدت طريقا للتفاهم بأقل قدر من الضجيج، وأكبر قدر من الموضوعية . وكثيرا ما تثار مشاكل الحدود في فترات الأزمات وبفعل ضغوط خارجية. وكانت قد طفت على السطح لأول مرة في 1959 أثناء الحرب الباردة والصراع بين الاستعمار القديم وقوى التحرر والاستقلال الفتية، وفي مواجهة توابع زلزال الوحدة المصرية السورية، وقيام «الجمهورية العربية المتحدة »، وبتأثير توتر العلاقة مع الإدارة الأمريكية بسبب سقوط »حلف بغداد »، وسحب تمويل مشروع «السد العالي»، وقبول مصر بعرض سوفييتي بديل في ذلك الوقت، وهو ما اعتبره الغرب مروقا وتهديدا لمصالحه في المنطقة، فضلا عن مواجهة الغرب الآثار الناجمة عن كسر الرفض «الفيتو» الغربي على التوجهات الوحدوية العربية، وعلى شق طريق تنموي مستقل، وتبني مشروعات بمستوى «السد العالي »، وكانت مشاكل الحدود تثار مع كل توتر بين البلدين!.
وشهدت العلاقة، خلال ربع القرن الأخير، شهر عسل قصيرا، وذلك في السنة الأولى لحكم الترابي – البشير (‬1989/ 1990)؛ لكن الأحوال زادت تعقيدا بسبب محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أباباعام 1995، واستمرت حتى ثورة 25 يناير 2011، ونشير هنا إلى أن الحد الفاصل على امتداد حدود مصر والسودان هو خط عرض 22؛ بموجب نص اتفاقيتي 1899 ومعاهدة 1936. وقد تغلب القادة الأفارقة على مشاكل ونزاعات الحدود بحكمة؛ قاطعين الطريق على قوى الاستعمار القديم والجديد والقبول بها كما ورثوها مع الاستقلال، وكي لا تستغل لتأجيج الصراعات وإشعال الحروب ! وإلى ما قبل عصر مبارك كانت مصر تقف مع السودان «ظالما أو مظلوما»، بغض النظر عن الخلاف السياسي.‬
وذلك حرصا على علاقات ضاربة في عمق التاريخ، فمنذ عصر الملك أحمس «طارِد الهكسوس»؛ شملت حدود الدولة المصرية السودان القديم، وكان معروفا باسم «كوش»، على اسم «كوش» بن حام بن نوح، وكانت اللغة المصرية القديمة لغة أهلها. واعتاد ملوك مصر اختيار ممثلين لهم يديرون ذلك الجزء الجنوبي من الدولة القديمة.
وننتقل إلى علاقات البلدين في طورها المعاصر مع بدايات القرن التاسع عشر وحكم محمد علي؛ الطامح لبناء دولة حديثة في وادي النيل؛ تمتد جنوبا وشرقا. ولما توفرت له أسباب القودة دفع بجيوشه عام 1820 يلملم شتات الأقاليم والمناطق والقبائل المتفرقة والمتنازعة في جنوب الوادي، وكانت موزعة على سلطنات وممالك وقبائل، وصنع منها كياناً إدارياً وسياسياً واحدا هو السودان.
واستمر التوحيد عدة عقود، واكتمل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتحديدا في عام 1874 بعد إلحاق «سلطنة دارفور» بباقي السودان على يد الزبير باشا، الذي عمل تحت إمرة الخديوي إسماعيل، وسبق له استكشاف وضم إقليم جنوب السودان، وكان يُعرف بـ»المديرية الاستوائية».
ومع وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني في عام 1882 استمرت العلاقة بين مصر والسودان دون انقطاع؛ باستثناء فترة حكم «الدولة المهدية» (1885 – 1898)، وعادت العلاقة أثناء ما يُعرف بـ»الحكم الثنائي» (المصري – البريطاني)، وكيف يكون الحكم ثنائيا والبلدان يتحكم فيهما احتلال واحد؛ ممثلا بحاكم انكليزي في الخرطوم، ومندوب سامي بريطاني في القاهرة؟!
وتشير المصادر التاريخية إلى أن العلاقات مرت بتحول سلبي بعد ثورة 1919؛ نتج عن تغيير لقب حاكم مصر من سلطان إلى «ملك مصر»، وليس «ملك مصر والسودان» وبذلك سقط هدف الوحدة المصرية السودانية بفعل الضغط البريطاني.
واستغلت بريطانيا مقتل «السير لي ستاك» الحاكم عام السودان؛ في القاهرة وتخلصت من الوجود المصري في السودان خلال 24 ساعة، ولم يبق لمصر إلا نفوذا إسميا في تفاتيش الري، وإدارة خزان جبل الأولياء، وجمع البيانات المتعلقة بالنيل.
ومعركة انفصال السودان عن مصر أقدم من خمسينات القرن الماضي، حين نادى مؤتمر الخريجين عام 1938؛ بـ«حق تقرير المصير».
ومع ذلك ساندت مصر دعوة «وحدة وادي النيل»، وبذلت جهدا في توحيد الأحزاب الاتحادية بعد ثورة 1952 حتى نجحت في تشكيل «الحزب الوطني الاتحادي» بزعامة إسماعيل الأزهري، وفاز بأغلبية كاسحة في الجمعية التأسيسة، وتولى رئاسة أول وزارة سودانية عام 1954، ونص دستور الحزب «الاتحادي» على الاتحاد مع مصر. وبعد إكتمال «السودنة» طالبت الحكومة السودانية مصر وبريطانيا بسحب قواتهما لإجراء الاستفتاء في جو محايد. وتم الانسحاب عام 1955. ورأت حكومة السودان عدم الحاجة لاستفتاء؛ بعد اتفاق القوى السياسية على رفض الاتحاد، وقامت جمهورية السودان في 19 كانون الاول/ديسمبر 1955، وتشكل مجلس رئاسة الدولة، واستقل السودان رسميا قبل مصر وذلك في أول كانون الثاني/يناير 1956!.
نجحت زيارة الرئيس البشير في تحييد القضايا الخلافية وأحيت اتفاقيات سابقة، وسعت لتنشيط التجارة والتعاون الإقتصادي، ولامست قضايا الحدود، وضبط منافذ الخروج والدخول أمام مهربي السلاح والمخدرات والمواد الممنوعة، فضلا عن تناول ملفي ليبيا وسد النهضة. وأكد أعضاء الوفد المرافق للرئيس البشير بما يشبه الإجماع أنهم «معنيون بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في الاتفاقيات السابقة وإعطائها زخما مستحقا يتناسب مع الروابط التاريخية وطبيعة العلاقة بين البلدين». ومنها اتفاقية الحريات الأربع الموقعة سنة 2004، وتسمح بحرية التملك والتنقل والاقامة والعمل.
وإذا أكدت الأيام القادمة التزام البلدين بهذه التعهدات فمعنى هذا أن العلاقات دخلت طورا جديدا وضروريا يحد من الاستقطاب، ويتجاوز الفتن، ويسد منابع «الإرهاب»، ويعالج الجمود المزمن، الذي عانت منه العلاقات التاريخية والمصيرية للبلدين، وهو ما ينعكس إيجابيا على منطقة برسم التقسيم.

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول zinan:

    متقفي العسكر الاتخجلون

إشترك في قائمتنا البريدية