من الصناعات التي لا بد تأثرت الآن، وتتأثر مستقبلا بسبب وباء كورونا، صناعة النشر عامة، وتلك المختصة بنشر الإبداع خاصة. وكنا نلاحظ ازدهارا كبيرا جدا في السنوات الأخيرة، في تلك الصناعة، مع تزايد عدد الذين طرقوا أبواب الكتابة الإبداعية، خاصة في مجال الرواية، ومع ازدياد الجوائز العربية، التي تعتبر المحفز الأول والأشد ضراوة في جعل الناس يبدعون، أو يكتبون مع وهم الإبداع.
صناعة النشر كانت مواكبة، وتقرأ المعطيات، وتشجع الكتابة التي سترشح لجائزة، وأيضا ترضي الكاتب من حيث شكل الغلاف وألوانه، وإقامة حفلات توقيع هنا وهناك، يحضرها الأهل والأصدقاء، وتلتقط فيها الصور التذكارية. وأظنني تحدثت عن تلك الحفلات مرات عدة، وسميت يوم التوقيع في معرض الكتاب يوم الكاتب الشبيه بيوم العرس، حيث يكون الكاتب نجما، ولا يعرف أحد إن كان سيظل نجما مضيئا بإبداعات مستقبلية، أم سيخبو، ويتحول عرسه الكتابي إلى صور وابتسامات عريضة، متوفرة في صفحات التواصل الاجتماعي.
دور النشر تواكب كما قلت، وتصنع اليوم المميز، والابتسامات العريضة، وتسعى للجوائز بكتب ربما لا يكون الناشر نفسه يعرف عنها أي شيء، ما دام الكاتب الطموح مستعدا لتمويل كل ذلك. ولا عجب أننا صرنا نسمع يوميا عن نشأة دور نشر جديدة، تجد لها أسماء، وأجنحة ونتاجات، في معارض الكتب، وتجد كتابا وشعراء يحومون حولها، أو يجلسون داخلها في أيام الاحتفاء التي تخصص لهم، ينتظرون قارئا يوقعون له.
وأذكر أنني كنت أمر في معرض القاهرة للكتاب، العام قبل الماضي، وأقرأ لافتات أجنحة دور النشر، محاولا تخزينها في الذاكرة، وكان الأمر صعبا، لأن لا ذاكرة تستطيع تخزين عدد منهك مثل ذلك. وقد اعترضني أحد الشباب، وكان يعمل في إحدى تلك الدور، وطلب مني رواية لينشرها، دعما مني لداره، واعتذرت بالطبع لأنني أعمل مع ناشرين محددين، وأيضا لتأكدي أن داره لن توزع كتابي أبعد من أجنحة معرض الكتاب.
إذن ماذا حدث بخصوص النشر؟ وماذا سيحدث في الأيام المقبلة، إن استطعنا القضاء على كوفيد-19 أو لم نستطع، واضطررنا للتعامل معه كمرض مزمن موجود في البيئة، ينشط ويخفت، تماما مثل الإنفلونزا العادية، وحمى الملاريا والتايفوئيد؟
أولا نقول أو نذكر أن الكتابة الإبداعية ليست مورد رزق لأحد في الوطن العربي على الإطلاق، ومنذ عرفناها، استوعبنا الأمر هكذا، ونتعاطى معه بذلك الشغف الغريب. لذلك فإن الكتاب هم موظفون في وظائف أخرى يعيشون منها، وينفق معظمهم على الكتابة كما قلت، خاصة المبتدئين الذين يدخلون المجال بأحلام واسعة، قد تتحقق، ولكن في الغالب لن تتحقق أبدا.
تقول منظمة العمل الدولية إن آلاف الشركات، والمصانع الصغيرة، ستغلق أبوابها نهائيا في الأيام الآتية بسبب عدم قدرة ملاكها على مجاراة الوضع، وبالتالي سيفقد ملايين الموظفين سبل عيشهم، وسيرتفع معدل البطالة، والفقر إلى أرقام غير مسبوقة، حتى الشركات الكبيرة ستقلص حجم العمالة لديها، وتشرد كثيرين. هذا ليس عندنا في البلاد العربية، ولكن في العالم كله، وقطعا في البلاد العربية سيكون الأمر أقسى لأن الوظائف أصلا محدودة، وقليلة الأجر، وكثيرون جدا يعملون في وظيفتين أو ثلاث وظائف من أجل حياة لن أسميها حياة جيدة، ولكن مجرد حياة.
الكاتب الموظف، إن بقي في وظيفته، سيبقى خائفا من الغد، هل سيبقى يوما آخر أم لا؟ وبالتالي لا تمويل لنشر كتاب، وربما إلغاء تام لطموح الشهرة، واللمعان، والبقاء رب أسرة يحاول أن يقوم بواجبه البيتي لا أقل ولا أكثر.
الكاتب الذي فقد وظيفته، بالطبع سيفقد كل شيء يتعلق بالكتابة، وسينضم لقافلة الباحثين الأزليين عن عمل، لن يكون متوفرا، لأن ملايين الوظائف ألغيت. ويمكن أن تجد حتى متجرا عظيما مثل كارفور، يعمل بمحاسب واحد أو محاسبين، بعد أن كنت تجد جيشا من المحاسبين، يعملون على خدمة الزبائن. أيضا لن تجد عاملا يعبئ لك السلع في الأكياس لأنك ستعبئها وحدك، وربما لا تجد حتى أكياسا للتعبئة. وقد لاحظنا أن وظائف حراس الأمن ازدهرت في السنوات الأخيرة، وتجد في كل مكان رجالا ونساء بأزياء قاتمة، يمنعون الدخول، أو يسمحون به، أو يسألون عن بطاقات شخصية، هؤلاء أيضا لن تجدهم، وستعتبر خدماتهم ترفا في ما بعد كورونا.
ماذا عن القارئ؟ القارئ المدمن، وغير المدمن الذي يقرأ من حين لآخر؟
إن كانت الكتابة ستعد ترفا بعد كورونا، فالقراءة ستعد ترفا أكبر، ولن يجد الكتاب حتى لو كتب ونشر ووزع، إلا قراء قليلين يشترونه بعد تردد، وبعد تقليبه مرات عدة وأتوقع أن تزداد شراسة القرصنة الإلكترونية، وتوضع الكتب في مواقع التحميل المجاني مباشرة بعد صدورها، ومن قبل أولئك الذين يظنون أنهم يعملون الخير. وكنت مرة عثرت على بعض كتبي منشورة بلا تصريح، في موقع إلكتروني، كتب صاحبه: عمل الخير هذا وقف لروح والدتي رحمها الله.
لقد افترض الرجل أنه قام بعمل كريم بسرقته لمجهود الغير، ولدرجة أن يتقرب به إلى والدته الراحلة.
أكثر ما يحزنني في ذلك المستقبل القاتم، هو أن الإبداع سيبدو مادة كئيبة، مادة مثل البكاء، والحزن.
أيضا يحزنني تقلص أعمال الترجمة التي بدأنا نحس بازدهارها في السنوات الأخيرة بترجمة الأدب العربي إلى لغات عدة، بعضها غير مطروق في الماضي مثل اللغة البولندية والصينية. مؤكد لن يحس العالم بحاجته لنشاط مثل هذا، مع الحاجة إلى الغذاء والدواء أكثر.
*كاتب سوداني
رؤية قاتمة جدا ولكن لحسن الحظ لن تتحقق في الواقع. هناك مؤسسات عملاقة سبب وجودها هو هذه الأنشطة التجارية والإقتصادية والثقافية. أتوقع أن يحدث العكس تماما. ولا ننسى أنها أصلا لم تتوقف. أنا شخصيا طلبت في عز الحجر الصحي عن طريق الإنترنت كتابا عن روبير موزيل غير موجود في المغرب. وأعتقدت أنني لن أحلم به إلا بعد شهور ولكن فوجئت بساعي البريد يسلمه لي بعد أسبوعين!
والأهم أن كل هذا الذي تتحدث عنه يدخل في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم وسدنته مستعدون لإستخدام القنابل النووية للدفاع عنه فكيف سينهارون من تلقاء أنفسهم؟