كانت الأوبئة التي طالما سمعنا أو قرأنا عنها في الكتب، مجرد أحداث. وكان يصعب علينا إدراك حجمها الحقيقي، أو مأساويتها الفعلية. إلى أن عصفت بنا هذه الجائحة، فنقلتنا من عوالم كتب التاريخ، وأفلام الخيال والفانتازيا، إلى الحقائق المعاشة أمام أعيننا. ومما لا شك فيه، أن وباء كورونا، وما أحدثه في المجتمعات، سوف يفرض نفسه على تصرفاتنا مستقبلا بشكل عام، من حيث السلوكيات الإنسانية، والنظافة، والطعام، والشراب، وكل العادات الإنسانية البسيطة، إن كان في الحياة العامة أو الخاصة على السواء.
ويطرح أغلب المفكرين والأدباء حاليا، أسئلة حول الإنسانية بصفة عامة ومآلها، ودور النيوليبرالية المتوحشة، التي حولت الإنسان إلى مجرد أداة في أيدي الدول الكبرى، وأصحاب رؤوس الأموال. وعلى التبدل النوعي في العولمة الفجة، التي وضعت السوق والمال والتجارة، قبل أي شيء آخر، وداست على إنسانية الإنسان، وحولته بشكل مأساوي إلى مجرد رقم في حسابات السوق والاستهلاك، ومصير الأسلحة المدمرة، والقادة الذين يشنون حروبا عسكرية واقتصادية، على شعوب لا تملك ما تُدافع به عن نفسها. ويتوقعون تغييرا عميقا من كل النواحي الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصا التعليمية.
ولن يسلم الإبداع الإنساني من هذا التغيير، الذي سيكون حتما أعمق مما نتصور، لأن الإبداع انعكاس لمرآة النفس وخباياها، والمعاناة ومعايشة المآسي، أحد أهم الدوافع لولادة الإبداع. وهذا التغيير سوف يظهر جليا في الأحداث، والتفاصيل الصغيرة، والأسلوب والشكل والقوالب، وأيضا في المحتوى وطبيعته. ويعتقد بعض الكتاب والنقاد جازمين، بأن هناك أدبا جديدا، سوف يطفو على السطح، ويتصدر واجهة الأدب، وأن هذه الجائحة قد تدفع بالأقلام إلى الخروج على ما تعانيه من رتابة، والدخول إلى عالم جديد، وأفق أوسع… فصفحات التواصل الاجتماعي، والعالم الرقمي الافتراضي، يضج اليوم بأعمال شعرية، ومجموعة ضخمة من القصص القصيرة، ومقطوعات أدبية وجدانية، معظمها غير مكتمل. ولكنها تدل بلا شك على ومض جديد في عالم الأدب والإبداع. وفي اعتقادي، أن هذه الإبداعات، ستشكل إذا ما اكتملت قطيعة مع الماضي بكل ما فيه من أساليب، وأنماط، وأفكار إنسانية واجتماعية، وتؤسس لجديد مقبل لا محالة، كان يحاول منذ فترة اقتحام عوالمنا، ولكن كورونا عجّلت به، وأدخلته رغما عنا جميعا. وسوف يكون هذا الإبداع بكل تأكيد جديدا بنكهة خاصة، ولكنه سيأخذ وقتا، قد يطول نسبيا لكي يختمر، ولن يكون إلا متمردا، ثائرا على الفقر والظلم، والجهل والتغريب، والتسطيح. وعلى الأنظمة التي لم تُعد العدَّة لمواجهة هذا الوباء، ولا غيره من مآسي مجتمعاتنا التعليمية والبيئية والاجتماعية… أنظمة أعدت العدة فقط للدفاع عن نفسها، بأحدث أنواع الأسلحة. ونسيت أهم شيء، وهو صحة الإنسان، والعناية بها. وأفضل هذا الإبداع بلا شك، هو الذي سيخرج بأقلام الذين أصابتهم هذه الجائحة، وعانوا ويلاتها وآلامها، وقلبت نظراتهم في لحظة من اللحظات، وجوه المحيطين بهم، والعالم من حولهم. وحدقت في رفوف مكتباتهم، وأوراق مشاريعهم المكدسة على مكاتبهم، وهي تنتظر ناشرا.. وعاشوا هُنيهات حاسمة، شعروا بأنها قد تكون الأخيرة، وبعدها يأتي سفر طويل في عالم الموت.
قد ينتظر الكتاب العرب خروج بعض الأعمال في أوروبا، وغيرها من بلاد العالم، لتنير لهم الطريق وتفتح أمامهم الآفاق، وللأسف فإن كثيرا من حملة الأقلام، في مجالات الإبداع المختلفة، يقلدون الآخر تارة، ويستوحون منه تارة أخرى.
وطالما أن الأدب والإبداع بكل أشكاله، هو ابن واقعه وزمانه، وإن كان يحملنا أحيانا إلى الماضي، فإنه سيغلب على الإبداع بعد كورونا، من الناحية النفسية، مسحة حزن، وخوف وقلق، وربما سوداوية ناتجة عن العزلة، إلا بالنسبة لمن اتخذ من الوحدة نمط حياة، فأصبحت جزءا من بنية شخصيته، وهؤلاء كثر، وبالأخص الذين يعيشون في دول المهجر، بعيدا عن أوطانهم. وعلى ما أعتقد أن هؤلاء سوف تخرج كتاباتهم مليئة بالسخرية، أو الابتسامات المرة، كحالة من الإعلاء النفسي، للتعبير عن الانتصار على الوباء، ومشاكل الحياة المختلفة. وسوف يلمس القراء مدى الألم الذي يستريح وراء أسلوب ومحتوى السرديات، والمفردات التي سيضمنها المبدعون نتاجهم، وستفرض هذه الجائحة على المبدعين، الغوص بشكل أكبر في ذواتهم، وكل المحيط بهم، بحثا عن المثل، والجماليات، التي تسكن الأشياء من حولهم، والتي افتقدوا التمتع بها قسرا طوال فترة الحظر، بل ستجعلهم يُبْحرون في عوالم المثل، بحثا عن الأخلاقيات التي افتقدتها البشرية، والعلاقات الإنسانية الصادقة، التي تبخّرت شيئا فشيئا مع التطورات الرقمية، التي أثرت سلبا على الحياة الإنسانية والاجتماعية.
ومن المؤكد أن تخضع بعض الأعمال الأدبية التي ستخرج قريبا، لمبدأ الموضة. حيث تكون متشابهة إلى حد كبير، موضوعا وقالبا، وأحيانا في تفاصيل بعض الأحداث التي سيضمنها الأدباء إبداعاتهم. ولنا في الأدب العربي تجارب كثيرة من هذا النوع، ظهرت عقب وقوع أحداث مهمة في بلداننا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعض كتابات المبدعين اللبنانيين عن الحرب اللبنانية، وما عاشوه من ويلات تلك الحرب السيئة الذكر، أو كتابات بعض المبدعين المصريين، وأسلوب تعاطيهم مع حرب أكتوبر/تشرين الأول (العاشر من رمضان)، وبطولات الجيش المصري في العبور، وحرب السويس.. ومؤخرا الأدبيات التي خرجت في الجزائر بعد العشرية السوداء.
وإذا كانت الحياة قد توقفت بصفة عامة، إلا أن الإبداع لم يتوقف للحظة واحدة. حيث أخذ المبدعون يطلون علينا بنتاجاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فعلى الصعيد الموسيقي نشر كثير من الموسيقيين أغاني خاصة بهذه المناسبة، تأتي في مقدمتها أغنية الفنانة المعروفة شانتال بيطار «عم تخطر عبالي بالحجر الصحي». وعلى صعيد السينما، أنهى الفنان محمد رمضان تصوير فيلمه «الملاك الطاهر»، الذي يحكي قصة طبيب مصري في أحد مستشفيات مصر، أصيب بفيروس كورونا، انتقل إليه من أحد المرضى، فتوفي إثرها. وهناك مشاريع سينمائية كثيرة أخرى، شرع بها المخرجون، خصوصا في مجال الأفلام القصيرة والتوثيقية، التي تدور حول مجتمعاتنا ومعاناة أفرادها في ظل جائحة كورونا. منها فيلم «كوفيديو»، للمخرجة كارول منصور، الذي صورته بهاتفها النقال، مساهمة في مبادرة أطلقتها منظمة IMS الدنماركية. أما في عالم الكتابة والشعر، فمن السابق لأوانه الحديث عن إصدارات كونها تحتاج لفترة للاختمار قبل ولادتها.
وقد ينتظر الكتاب العرب خروج بعض الأعمال في أوروبا، وغيرها من بلاد العالم، لتنير لهم الطريق وتفتح أمامهم الآفاق، وللأسف فإن كثيرا من حملة الأقلام، في مجالات الإبداع المختلفة، يقلدون الآخر تارة، ويستوحون منه تارة أخرى. هذا في الوقت الذي لا أشك فيه لحظة، في لجوء كثير من الكتاب ليس في بلادنا فقط، بل عبر العالم، في هذه الفترة إلى أهم كتابين في تاريخ الأدب العالمي المعاصر، تناولا الحديث عن أوبئة أصابت المجتمعات في القرن الماضي وهما: «الطاعون» للأديب الفرنسي ألبير كامو الحائز جائزة نوبل للآداب، و«الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحائز أيضا نوبل للآداب. وآمل أن لا تكون إبداعات بعض مبدعينا مستوحاة من هذين العملين، أو مستظلة بظلالهما، بل أن تحمل إبداعاتهم جديدا يؤسس لمرحلة جديدة بكل ما لهذه الكلمة من معان…
٭ كاتب لبناني
/أهم كتابين في تاريخ الأدب العالمي المعاصر، تناولا الحديث عن أوبئة أصابت المجتمعات في القرن الماضي وهما: «الطاعون» للأديب الفرنسي ألبير كامو الحائز جائزة نوبل للآداب، و«الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحائز أيضا نوبل للآداب/..
قبل كل شيء، الحصول على جائزة نوبل للآداب ليس مقياسا، في هذا السياق، على الإطلاق حتى يتم التأكيد على هذا الحصول وكأنه عامل حاسم في الأمر.. ثم لا أدري، هنا، إن كان الأخ خالد بريش لديه أية فكرة عن أي من هتين الروايتين، في واقع هذا الأمر: فأما الرواية الأولى «الطاعون» لألبير كامو، فهي رواية عنصرية بامتياز وبكل معنى الكلمة، وذلك حتى بدءا من تحديد جغرافيا المكان الذي اختاره كامو كمسرح لأحداث هذه الرواية عمدا، ألا وهو: مدينة وهران الجزائرية دون غيرها من المدن التي اجتاحها الطاعون /وهي، بالمناسبة أو بالمصادفة المحض، المدينة التي تُقارن بمدينة ووهان الصينية من حيث الموقف العنصري الذي اتُّخذ ضدَّها على أكثر من صعيد أوروبي عام وأمريكي خاص/..
/للكلام بقية/..
/بقية الكلام/..
وأما الرواية الثانية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز، فأحداثها عموما ليس لها أية علاقة بجائحة كورونا في هذا الزمان سوى باسم الوباء «الكوليرا» الذي لا يحدث، في جل أزمنة الرواية، على أرض الواقع أصلا.. وعلى الأخص أحداثها الأخيرة /وهي الأهم/ التي تدور على ظهر سفينة حيث يدعو بطل الرواية حبيبته /بعد انقطاع بينهما دام أكثر من خمسين عاما/ إلى «نزهة نهرية غرامية».. وحين توافق حبيبته على مرافقته في هذه «النزهة» يحاول الاقتراب منها أكثر فأكثر، فتتيقَّن هي من حبها له على الرغم من أن سنها بات يُشْعِرُها بأنه سنٌّ لم يعد صالحا للحب /أكثر من سبعين عاما/.. إلا أن الحبيب، رغم علاقاته الغرامية المتعددة خلال ذلك الانقطاع الطويل، لم ييأس من الاستمرار في التشبث بالأمل والظفر بحبيبته من جديد، فيسعى إلى التخلص من بقية المسافرين على ظهر السفينة عن طريق خداعهم بأن هذه السفينة موبوءة بوباء الكوليرا لكي يخلو له الجو بحبيبته: لكن سرعان ما ينكشف أمر هذا الخداع بأمر «الحجر الصحي» فتقوم السلطات بالتدخل اللازم، وهذا كل ما في الأمر.. !!
شكرا جزيلا للأخت آصال أبسال على الملاحظات القيمة فيما يخص الروايتين، «الطاعون» لألبير كامو و«الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز، كما عهدناها دوما في العديد من المجالات الفكرية والأدبية والسياسية ؛
وردا على التحسُّب المستقبلي الذي يدوّنه الأخ خالد بريش في نهاية مقاله، أدعوه إلى التفاؤل خيرا فيما يتعلق بالإبداعات العربية بشكل خاص، فهناك منها بالتأكيد ما سوف يحمل بين طياته ذلك الجديد الذي “يؤسس لمرحلة جديدة بكل ما لهذه الكلمة من معان”، على حد تعبيره !!!؟؟