الفنان التشكيلي عبدالكريم مجدل بيك (من مواليد الحسكة، 1973) من ألمع أبناء جيله من الفنانين السوريين، بل إن تجربته قد تشكل نموذجاً لجيل من الشباب التشكيليين الذين لم يضطروا كأسلافهم الانتظار عقوداً بحالها كي توضع أسماؤهم على خريطة الفن في بلدهم على الأقل.
تخرّج مجدل بيك من «كلية الفنون الجميلة» بدمشق العام 1999، ثم بهدوء ودأب قدم أعماله التي تستلهم الآثار المتروكة على الجدران.
فكيف تعاطى هذا الفنان القادم من الشمال السوري مع الثورة في بلده، هذه التي بدأت من كتابات حفرها أطفال الجنوب، درعا، على جدران مدينتهم، فأشعلوا أجمل ثورة في الكون. هنا حوار معه:
٭ هل صار بإمكاننا الحديث عن جيل ما بعد الخامس عشر من آذار 2011 في الفن التشكيلي السوري؟ أي اسم يمكن أن نطلقه على هذا الجيل؟ هل يمكن الحديث عن أساليب متنوعة؟
٭ أعتقد من حيث المبدأ نعم، نستطيع الحديث عن هذا الجيل، ولكن قبل أن نحكم بشكل مطلق علينا الانتظار لعدة سنوات لنتأكد بشكل دقيق، بحكم أن بعض التجارب كان خجولاً في الأداء نتيجة الاستعجال عندما فتحت الأبواب لكل التجارب. هذا بالإضافة إلى الكم الهائل من النتاج، مما يحتّم علينا التروّي لفرز الأعمال والتجارب المهمة عن التجارب التي كانت أقل مستوى. إن أهمية الجيل الفني وأهمية المرحلة تأتي في الدرجة الأولى من سوية النتاج وعمقه، ومدى تأثير الحدث في تعميق التجربة التشكيلية عمودياً في تجارب فناني هذا الجيل أو ذاك. النوع أو الأداء الفني هنا أهم من الكمّ، إذا ما تحدثنا عن التحولات الجوهريه والعميقه في التجربه التشكيلية.
أما عن الاسم الذي يمكن أن نطلقه على هذا الجيل في العموم فهو جيل الثورة أو جيل الحرب، الجيل الذي انفتحت أمامه الآفاق وكسر الخوف، انفتح على حرية التعبير بكل الوسائل التشكيلية ابتداءً بلوحه الحامل وانتهاءً بالفنون البصرية والرقمية. هذا الجيل، الذي اضطر الكثير من أبنائه إلى النزوح والهجرة، اشتغل على كل الأساليب الفنية، وفي كل الاتجاهات كي يوصل صوته إلى العالم.
٭ بالنسبة لك، ماذا غيرت الثورة السورية لديك؟ أي توجهات؟ أساليب؟ موضوعات؟
٭ لا شك كان لها التأثير الكبير على عدة مستويات، كإنسان أولاً قبل أن أكون فناناً. مشاهد القتل اليومية هزّت الجميع من الأعماق. كنت أرسم جدراناً وأرسم الزمن المتراكم على هذه الجدران كذاكرة للمدينة ووثيقة لها. مع بداية الثورة دفعتني رغبات ملحة، وتحت ضغط المأساة اليومية إلى التعبير عن الحدث بطريقه وأسلوب أكثر وضوحاً وحدّة. وقد يستغرب البعض إذا قلت إنها كانت سبباً ومحرضاً لي في الانفتاح على المدارس المعاصرة، فقد بات من المهم كيف تقول مقولتك وكيف توصلها إلى الآخر، حتى وإن اختلفت الطريقة أو الأسلوب أحيانا عمّا اعتدت عليه. هذا دفعني إلى إنجاز مجموعه من الأعمال الجديدة، وقد عرضت في معرض شخصي في كل من بيروت ودبي، استخدمت فيها مفردات جديدة (سكاكين، مسدسات، صلبان، فخاخ العصافير، شوادر عسكرية، …الخ). لا شك أن الفنان عندما يطرح موضوعاً أو فكرة ما، قد تدفعه هذه الفكره أو تفرض عليه استخدام مفردات جديدة ليستطيع من خلالها التعبير عمّا يريد البوح به. هكذا رسمت الألم السوري، كان ألماً مكثفاً. بعض الأعمال رسمتها في دمشق، وبعضها الآخر في بيروت.
بالإضافة إلى تلك الأعمال أنجزت مجموعة من الاسكتشات والتخطيطات السريعة بالحبر، والتي كانت تلبي حاجتي في رسم الحدث اليومي بشكل مباشر، من دون أن أفقد الشحنة الأولى والانفعال الأول الذي يفقده الفنان عادة في إنجاز عمل يتطلب التحضير. عنونت مجموعة الاسكتشات تحت مسمى «اسكتش الألم».
٭ قبيل الثورة كانت لوحاتك تستلهم الآثار المتروكة على الجدران، وفي الأساس انطلقت ثورة السوريين من كتابة أطفال درعا شعاراتهم على الجدران، أي أسلوب أو توجّه عزز هذا الامر لديك؟ كيف يمكن أن نجد صدى ذلك في أعمالك؟
٭ موضوع الجدار وفكرة التقاط الزمن المتراكم عليها لم ينته بعد، بل ما زال مستمراً. وقد كان معرضي الذي غابت فيه الجدران نوعاً ما بسبب حدث طارئ وملحّ فرض عليّ مفردات جديدة كما نوهت آنفاً. مشروعي في العمل على الجدران سيستمر، وقد أدركت أن الجدار قد لا يكون ذاكرة ووثيقة فحسب، بل يمكن أن يكون شاهدأ ورسالة أيضاً، كما يمكن أن يكون لساناً وضميراً حياً.
ذكريات محلية
٭ ما أثر بيئة الأكراد السوريين وثقافتهم في أعمالك؟
٭ أنا كردي المنشأ والثقافة، أول ما يجمع بين أعمالي وانتمائي هو الطين، والتراب. أعمالي فيها، بالإضافة إلى التقشف اللونيّ الذي يشبه بيئتي الجافة، من المواد العضوية التي تجمعها مع حاضنتها المعمارية الكردية الجزراوية الشيء الكثير، وهو التراب والطين. ففي أعمالي يختلط الرماد، الجبس، الغراء، القش، الطين، الرمل، الفحم،.. الخ من المواد العضوية القريبة من روح الجدار أولاً، ثم من روح العمارة الطينية الكردية البسيطة ثانياً، بالإضافة إلى ظهور تلك الثقافة بصيغتها البصرية عبر لوحات تحت اسم «موريك»، اسم قريتي، من خلال رسم لجدرانها الداخلية محمّل بكمّ كبير من العاطفة والتفاصيل والذكريات المحلية الحميمية من صور للأهل إلى أشعار وتمائم وتفاصيل متنوعة. كما إنني غارق بالغناء الكردي الكلاسيكي فهو مصدر طاقتي الخفيّة في نتاجي الفني، وقد أنتجت مجموعه لوحات كانت مادتها الأساسية أشعار أحد أعظم الشعراء الكلاسيكيين الكورد وهو ملايي جزيري، لذا أطلقت اسم «جدار الجزيري» على هذه الأعمال.
٭ أيّ صور ومشاهدات أثناء الثورة كانت الأكثر تأثيراً لديك؟ هل هناك أعمال رسمتها بتأثير حدث، أو صورة رأيتها بشكل مباشر او على شاشة التلفزيون؟
٭ آلاف الصور. تلك التي تهزّ الضمائر. مشاهد القتل اليومي والتنكيل. لكن أكثرها سطوة تلك الأجساد التي تنتشل من تحت الأنقاض، العظام المطحونة، الأجساد الممزقه الرخوة، الوجوه المليئة بالدم وغبار الاسمنت. وقد رسمت مجموعه اسكتشات بالحبر تحت اسم «بورتريهات من تحت الأنقاض»، كما رسمت «تحت سماء بابا عمرو»، و»كرم الزيتون» و»بلادي.. بلادي»، ورسومات أخرى بتأثير مباشر من الصور الأولى التي شاهدناها عبر البث الفضائي. ومن المشاهد القميئة والتي لا تنسى ما ترتكبه الجماعات المتشددة السلفية من قطع للرؤوس و جزّ للرقاب بتشف و من دون رحمة. لا شي يوازي الوحشية التي مورست على الأرض السورية.
٭ من بين موضوعاتك المستجدة «الديمقراطية والانتخابات..»، هل من الطبيعي أن يبدأ الفنان من موضوع، لا من صور ومشاغل بصرية؟
٭ فكرة المعرض القادم تندرج تحت مفاهيم الفن المعاصر، من ناحية التنفيذ والمواد والاداء، لأن العمل الأساسي في هذا المعرض هو أنه عمل تركيبي «Installation»، لذلك ليس بالضرورة دائماً الانطلاق من الذاكرة البصرية بالمعنى التقليدي لهذا المفهوم في التشكيل لتنفيذ عمل ما. إن المحاكمات تختلف من مدرسة إلى أخرى، أما في الفنون المعاصرة فهي تخضع لنظم مختلفة، لأن قسماً كبيراً منها يكون مبنياً على أفكار لا على مشاهدات بصرية بالمعنى المعروف عنها في اللوحه الحامل.
في العمل التركيبي مثلاً قد تستند إلى فكرة وتقوم بطرح الفكرة استناداً إلى مفردات تتناسب مع أهدافك. أما إذا أردنا التحدث جدلاً عن ذاكرة بصرية في معالجة فكرة ما أو موضوع ما كالديمقراطية في العالم العربي مثلاً، فلا أعتقد بوجود تجربة ديمقراطية في بلد ما من بلدان العالم العربي نستطيع أن نقول عنها إنها تجربة جيدة. نحن نعيش في شرقٍ التجربة الديمقراطية تكاد تكون معدومة فيها، فمن أين لي بذاكرة وأنا لم أر حالة انتخابية حرة، ولم أمارس حقيّ الانتخابي بشكل حرّ في يوم من الأيام، وهذا لبّ المعضلة وأصل المشكلة في طرحي القادم. المعرض يفتتح بعد أيام في بيروت ويتناول فكرة الديمقراطية في العالم العربي وحلم الوصول اليها. كما ويتهكم في جانب منه من طريقة ممارستها غير النزيهه وغير الحرّة في بلداننا.
٭ أخيراً شاركت في معرض في بيروت تحت عنوان «أوج الفن السوري»، هل هذا يعني أن مجموعة الفنانين المشاركين يستأثرون بهذا «الأوج»؟
٭ أبداً. كثر جداً الفنانون السوريون الذين يرقون إلى هذه التسمية وأكثر، وهم أكثر مما نستطيع حصره هنا. الفن السوري بأجياله المختلفة قدّم ويقدم مبدعين حقيقيين، قسم كبير من جيل الشباب موهوب وعنيد ويمتلك قدرات عالية نستطيع أن نقول عنهم «أوج الفن السوري» من دون تردد.
٭ كاتب سوري
راشد عيسى