في اتصال هاتفي مع رجل دين، تمت استضافته في إحدى الإذاعات العربية، للإجابة على الأسئلة التي قد تكون ملتبسة، أو بحاجة إلى إيضاح، في المسائل الشرعية، قال أحدهم بأنه يشعر برغبة كبيرة في الاعتكاف في المسجد للعبادة، هذا العام، في أواخر شهر رمضان، ولأن المساجد مغلقة بسبب وباء كورونا، سأل:
هل يستطيع أن يقوم بكسر باب المسجد، والتسلل إليه ليلا، والاعتكاف في داخله؟
رجل الدين لم يجب مباشرة، وبدا لي يحس بغرابة الطرح، لكن دائما في وجود برامج إذاعية أو تلفزيونية للتفاعل المباشر، دائما ما نجد طرحا منطقيا، وطرحا بعيدا عن كل منطق. وحين أجاب الرجل أخيرا، ذكر ما كنت أتوقعه، وهو أن سلوكا مثل هذا يعتبر خارجا على القانون، ويمكن للمرء أن يعتكف في بيته، للعبادة، وهو أصلا موجود داخل البيت بسبب، انتشار الوباء، ونداءات كل الدنيا للناس بالبقاء في بيوتهم، وعدم الخروج إلا عند الضرورة، وهي نداءات ملحة في الحقيقة، وكلنا شاركنا في توجيه نداءات عبر المنابر التي استطعنا الوصول إليها.
وأعتقد أن الوعي في هذه المسألة قد يكون حاضرا، لكن جزءا من العقل يرفض الانصياع لمبدأ السلامة، بحجة تقييد الحرية، ما يجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بالمرض، كما يطيل ذلك في بقاء الفيروس بيننا، وبالتالي يطيل عمر المعاناة، والأزمات التي حدثت ويتوقع حدوثها مستقبلا.
حقيقة هذا المتصل في الواقع، فعل ذلك ليس بغرض الحصول على فتوى تجيز كسره لباب المسجد، أي ما يسمى الاقتحام، وهو أمر مخالف للقانون كما نعرف، وفيه عقوبات مثل السجن والغرامة، ولا أظنه كان سيفعل ذلك إن صرّح له الشيخ بفعله، هو ذلك الجزء من العقل الذي يرفض التقييد، ما دفعه لذلك الطرح، ودفع كثيرين غيره، وسيتسمر في دفع آخرين، لطروحات غريبة مماثلة.
لا أحد يستطيع القراءة بذهن صاف، ولا الكتابة بأفكار متوقدة، ولا الرسم، أو عزف الموسيقى بأصابع رشيقة، سلسة، أو الغناء بالصوت الشجي الذي طالما غنى به، إن كان مغنيا.
مثل سؤال عن أداء مناسك الحج افتراضيا عبر الإنترنت، وسؤال لي شخصيا يسأله أحد الأشخاص يوميا عبر الهاتف:
ما هي أعراض مرض كورونا؟
وأكرر له ما يعرفه، ويعرفه العالم أجمع عن أعراض ومضاعفات ذلك المرض، وكيفية انتقاله، والوقاية منه، ويغلق الخط ليعاود الاتصال في اليوم التالي، وتكرار السؤال، وأظنه سيستمر هكذا، وقد يسأل عدة أطباء ويحصل على الإجابة نفسها، ما لم تنزح كارثة كورونا، ويعود الفيروس إلى خموله.
إذن كورونا أو كوفيد 19، ليس مرضا يصيب البعض، فيميت جزءا منهم ويعفو عن الجزء الآخر، فقط، وليس كارثة كبرى أضرت باقتصاد الدنيا فقط، ولكنه أيضا يصبغ من لم يصبهم بسلوك جديد عليهم تماما. إنه سلوك توتري أو اكتئابي بلا شك، يزيد من تفاقمه الصمت والتفكير المطول، والجلوس في العزلة الاضطرارية، التي يعجز فيها الشخص عن اتخاذ أي قرار، أو ممارسة أي نشاط، كما ذكرت في مقال سابق.
لا أحد يستطيع القراءة بذهن صاف، ولا الكتابة بأفكار متوقدة، ولا الرسم، أو عزف الموسيقى بأصابع رشيقة، سلسة، أو الغناء بالصوت الشجي الذي طالما غنى به، إن كان مغنيا. هذا في الناحية الإبداعية، وتأتي نواح أخرى في الحياة مهمة جدا، وتعطل من كان ينشطون فيها، ولا أظن من يقف أمام المرآة كل صباح، يتأمل شعره المنكوش، ولحيته المبعثرة، لن يترحم على زمـــن انتشار الحلاقــــين في كل مكــان، من دون أن يخطر على بال أحد، أنهم سيختفون ذات يوم.
نعم، التوتر والاكتئاب، هذا ما يحدث، وقطعا سيحدث بصورة جادة ومفزعة، حين تختفي عشرات الآلاف من الوظائف، وتغلق الشركات الموظفة للعمال أبوابها، أو تخفض أخرى من عمالتها، حتى تستعيد أنفاسها، بعد اندحار الوباء. وقد تكون الأعراض الاكتئابية التي قد لا يعرفها الكثيرون، أعراضا شائعة ذات يوم، سيعرفها الجميع بالكيفية نفسها التي يعرفون بها أعراض كورونا، ومثلما خففنا من مطاردة الأمراض الكثيرة، التي كنا نطاردها في الماضي، ونركز الجهود على مرض واحد، سنخترع جهودا أخرى، نطارد بها القلق والوسواس في ما بعد الوباء. قلق أن تخاف من عطسة عادية تعطسها أو يعطسها شخص جالس قريبا منك، قلق أن تسافر، وتحس بالرعب من منظر المطارات، حتى لو لم يكن فيها زحام كثيف، أن تجلس على مقعد في الطائرة، وتحس بأنك تجلس على بؤرة فيروسية، حتى السلوكيات اليومية العادية، مثل جلب الطعام، أو التزود بالوقود، أو إجراء مقابلة للحصول على عمل، لن تتم من دون قلق أو وسواس.
كيف نتعامل مع ذلك الوضع إذن؟
ليس لديّ فكرة، والذي أستطيع قوله، هو أن الإنسان يستطيع التأقلم مع كل شيء، أي يستطيع أن يتأقلم حتى مع قلقه، بحيث لا يصبح مشكلة كبرى، وقد يزول بالطبع مع الأيام، خاصة إن تم اكتشاف لقاح فعال للفيروس، وهذا سيحدث، وكلنا يعرف أنه حتى عهد قريب لم تكن هناك لقاحات ضد كثير من الأمراض، مثل شلل الأطفال، والحصبة، والتهاب الكبد الوبائي، واكتشفت تلك اللقاحات لتقي أجيالا أتت بعد ذلك.
كل ما في الأمر، أننا الآن محكومون بسلطة أخرى، غير السلطات التي نعرفها، ديكتاتورية تصنع الموت والخراب، والقلق والوسواس، والأسئلة الغريبة التي لم تكن لتسأل في زمان ماض.
٭ كاتب سوداني