1
هي ذاتها، القشعريرة التي انتظرها رامبو من الحداثة، وهي تتعافى في أيامه، عندما كان يغادر مدينة «شارفيل» إلى أقاصي افريقيا، في سبيل اكتشاف المعنى الغامض للمغامرة، لكأن الشعر لم يعد كافياً لانبثاق تلك المغامرة، أو لكأن الكتابة ليست جديرة باستكمال الحياة، بوصف المغامرة الحلم الوشيك الذي لا يتحقق.
عندما تذكرت صنيع رامبو، حين نزعَ نفسه من الشعر لممارسة التجارة في أدغال افريقيا، اعترض أحدهم على ذلك، معتبراً رحيل رامبو إلى تجارة الرقيق والأسلحة، إنما هو اصطدام فاجع بالواقع. وإن رامبو إنما تعرض للتحول الروحي، الذي أوقعه في العجز عن الكتابة.
ولكي أتعرف على وجهة النظر هذه، استعدت سيرة رامبو، لمعرفة المزيد أبعد من التحليل الذي تلقيناه من النقد الفرنسي عن هجران الشاعر الكتابة، معترفاً بتناقض مهنته الأخيرة مع طبيعة الشعر وشرط الصدق فيه.
2
لم تزل الكتب تصدر عن رامبو، كما أن المراجعات التاريخية والدرس النقدي لا يتوقفان، بحثاً في تجربة رامبو الشعرية والإنسانية.
ثمة مكتشفات يسعى إليها الباحثون، الفرنسيون خصوصاً، في العالم، في سبيل وضع رامبو الشاعر في المكانة الموضوعية التي يستحقها، في ضوء المزيد من المعلومات المستخلصة مما يتوفر من جديد المراجع ذات المعلومات المتوارية.
أقول المتوارية، حسنٌ بالظن، خشية أن يكون ثمة البعض لا يزال يعمل على حجب جانب من المعلومات المتصلة برامبو. فمن طبائع الأمور أن ينزع الوعي الجمعي، لدى الفرنسيين، إلى أسطرة لحكاية رامبو في حياته وشعره. ففي الأسطورة منحٌ عميقُ الدلالة لفرص العبقرية التي تُستحضر.
3
والذين أظهروا جانباً من مراسلاته، في فترات مختلفة، يكتشفون العصابات الحياتية التي عاشها، وهو يتنقل في أصقاع افريقيا وأدغالها، بحثاً عن النجاة من التجارة التي غرق في أهوالها، ذات الشروط العاتية. وتلك مراسلات تظهر جانباً عنيفاً من حياة رامبو، الذي فضّل الذهاب إلى الحياة بدل تخيلها.
4
الجانب الإبداعي في تجربة رامبو ظل أكثر بروزاً، وربما أكثر أهمية من بواقي حياته الأخيرة. حتى أن العديد من الدراسات التي لم تتوقف عن التدفق عن ضربة التجديد التي اجترحها في قصائده القليلة، وهي دراسات، في الفرنسية وغيرها من اللغات، جميعها شكلت جوقة كورالية في صيغة حلقات استباقية، تتربص وترصد ظواهر التجديد في التجارب الشعرية في العالم، ومقارنتها بتلك الضربة «القديمة»، التي اقترحها رامبو على الشعر الفرنسي في أيامه. تلك المقارنات ظلت تجتهد من أجل وضع تجربة رامبو وقصائده ميزاناً لدرجة التجديد في حداثة الكتابة الشعرية عبر العالم.
5
لسنا في صدد تقدير المفاهيم النقدية، التي تتصل بتجربة رامبو، ولكننا لا نكاد نجد في المقارنات الصارمة، وربما القسرية، بين مستحدثات الشعر في عموم العالم وقصائد رامبو، سوى ما يشبه السير في ظلام دامس، يمتد في نفق طويل منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى أيامنا، بدون أن نخرج، بغير أشلاء هشة، من الحريات المخترقة لشعراء يجتهدون في الظلام نفسه، لتجري مقارنتهم بأكثر التراث حداثة (كما يزعم الزاعمون). لست أعرف لماذا لا يزال بعض النقاد المعاصرين، في اللغات المختلفة يرون في رامبو مرجعاً تراثياً لما يكتب الآن؟ ولماذا لا يزال بعضنا يشعر بالحاجة إلى أسلافٍ يزكّون الكتابة الشعرية الجديدة ويمنحونها المشروعية؟
إن هذا يستعيد لنا الفكرة التي افترضها أصحاب الحداثة الشعرية في منتصف القرن العشرين، تلك الفكرة المتمثلة في كون كتاب الناقدة الفرنسية سارة برنارد عن قصيدة النثر، مرجعاً حاكماً لمجمل كتابتنا الشعرية العربية، في كل نص يخرج عن تفعيلة البحور الخليلية.
6
ربما لسنا في حاجةلمعرفة تلك القشعريرة التي كان ينتظرها رامبو من الشعر في زمانه، وربما لم تعد القشعريرة مقياساً ناجعاً لقياس شعرية النص الراهن. إنما نحن بصدد التوقف الصارم أزاء تجارب التجديد التي تجتاحنا في عموم المشهد الشعري العربي.
لنكتشف جوهرية الموهبة الشعرية مرفودة بمعرفة عميقة بالشعر، لئلا نبالغ في مقارناتنا بالإسلام، ولكن أيضاً، بدون التهاون، أو الاستهانة بالطاقة الجديدة التي تتميز بها مواهبنا الشعرية الجديدة. فالقشعريرة هي ضرب من الأحاسيس والمشاعر، من المتوقع مصادفتها في طريقنا إلى الشعر.
7
يقال إن فيكتور هوغو، اعتبرَ رامبو، فنياً، (طفل شكسبير)، غير أن رامبو لم يغادر طفولته الشعرية، حتى وهو يشارك، بكتابته النادرة، بتفجرات الحداثة الأوروبية. يقال إن إحساس رامبو بالتناقض الفج بين التجارة التي انهمك فيها ومفهومه للكتابة، جعله يتوقف عن الشعر، غير أن رسائله لتي كان يبعثها في رحلته الافريقية وأثناء مرضه الوبيل، كانت أدباً بشكلٍ ما.
8
رامبو، من ترجمة: محمد محمد السنباطي:
(كنت أتمشى ويداي في جيبيّ المهترئين
معطفي هو الآخر صار مثالياً
تحت السماء يا ربة الشعر أسير مخلصاً لكِ
وآهٍ آهٍ. كم من حب رائع حلمت به.
سروالي الوحيد به ثقب هائل
كنت في جولاتي مثل الصغير الحالم «عقلة الأصبع»
أفرْفط القوافي،
وكان مقامي في «الدب الأكبر»
وكان لنجوم سمائي حفيف جميل
طالما أصغيت إلى حفيفها
وأنا جالس على حافة الطريق
في تلك الأماسي من سبتمبر كنت أستشعر
قطرات الندى على جبيني كخمر العافية.
في الظلال الوهمية كنت أنظم أشعاري
أما قيثاري:
فكنت أجذب شيئاً طرياً من حذائي الجريح
وأتكئ بقدمي على قلبي..).
٭ شاعر بحريني