«مقتل القائد» لهاروكي موراكامي… الجميع غير مُكتمل وكل حل مجرد كذبة

ترجمة: لينا شدود
حجم الخط
1

يلتزم المؤلف الياباني بروتين يومي صارم عند العمل على رواية جديدة، إذ يستيقظ فجراً ليكتب طوال فترة الصباح، ومن ثم ليجري مسافة عشرة كيلومترات في فترة ما بعد الظهر. يقول موراكامي «إن الكتابة والجري بالنسبة لي أصبحا في النهاية غير قابلين للانفصال». لا يعرف موراكامي تماماً إلى أين هو ذاهب ويعتقد أن هذا هو ما ينبغي أن يكون. حينما تأخذ الطريق ذات المناظر الخلّابة عليك أن تتوقّع بعض الإلتواءت والتقلّبات.
تصوّر رواية (مقتل القائد) بشكل وافٍ مسار الرجل الهارب الذي يغير وجهته عائداً إلى وطنه، مُسقطاً ومسترجعاً خيوط السرد على الطريق، فخاتمة الرواية تُكشف من الصفحات الافتتاحية القليلة للعمل. راويها المجهول هو رسام بعمر السادسة والثلاثين؛ هارب من زواجه الفاشل وفار من انفعالاته الخاصة، وراغبٌ في نمط حياة على غرار الساموراي بعيداً في جبال أوداوارا وسط اليابان. غير أن كلا العالَمَين المادي والروحي يستمران في مضايقته، ولكن ثمة جرس مجهول يرنُّ في الغابة كل مساء ولوحة غامضة محفوظة تحت الأغطية في العليّة، ألا وهي لوحة مقتل القائد، المستوحاة من عمل دون جيوفاني لموزارت.
قبل أن يفوت الأوان ويصبح ملاذ بطلنا النائي مزدحماً كالمحطة المركزية الكبرى أو قصر كلوديو الميتافيزيقي حيث يحضر كل زائر مزوّداً بجزء من معلومات جديدة غامضة غير أنها أساسية. وفي نهاية المطاف وفي حبكة تقليدية إلى حدٍّ ما، ستفكّك تلك المعلومات ذاتها في صورة واقعية معيّنة؛ يفتخر رواي موراكامي الدمث بتقديمها وعلى الأغلب بإسقاطها على اللوحة القماشية بأسلوب الرسم التجريدي.
وصف بول كلي ذات مرة الرسم أنه «كمن يختار درباً للسير فيها». لا شك هنا أن موراكامي ينظر إلى كتاباته في كثير من الأحيان بذات الطريقة، أي كنزهة إبداعية نيّرة بالنسبة له كما هي لقارئه أيضاً. حيث يتعرّج مساره ويأخذ المنعطفات ومن ثم يعود جرياً. في كثير من الأحيان يتبدّل المشهد ويصبح من الصعب عدم الإحساس بالانعطاف. أحياناً، تنطلق أحداث رواية مقتل القائد بسلاسة وضمن المنطقة التي خطّط لها الكاتب من قبل. على سبيل المثال، يمكن مقارنة صالة عرض الأرواح بالكائنات الصغيرة المتخيّلة .1Q84 في ثلاثية هاروكي الشهيرة، بينما فكرة الهبوط الروحي في تجويف حجر جاف هي من بين تعابير موراكامي المجازية المألوفة، وقد عُرضت بشكل أكثر وضوحاً في روايته «أحوال الطائر النابض» وهي رواية من الخيال العلمي. في أحايين أخرى يتعدّى الكتاب بحرية كاملة على ممتلكات الغير كخصائص الأعمال الأدبية الأخرى. حبكتها الثانوية الرئيسية هي حول المليونير ذي الشخصية الكاريزمية الذي يشتري قصراً في الوادي من فتاة يعتقد أنها ابنته مقدّماً لنا الأمر كالتفاتة ذكية إلى رواية «غاتسبي العظيم» لفيتزجيرالد، وصولاً إلى أول مواجهة في بيت الراوي. ولكن أكثر عناصر الكتاب إثارة تكمن في رواية «دوما كي» لستيفن كينغ. هي أيضاً رواية عن فنان يختار الهرب من حياته السابقة ليكتشف أن اللوحات بمثابة بوابات سحرية وأن أشباح الماضي ترفض أن تدعه وشأنه. فموراكامي لا يفرّق على نحو واسع بين المسار العالي للرواية الأدبية، والمسار الأدنى لثقافة فن البوب. هو يعلم أن كليهما يستحقان الاستجلاء ولكل منهما متعته الخاصة.
القضية إذاً هي مسألة حركية تلك التغيرات المتكررة في وجهات التنقّل في الرواية. حيث تتم زيارة الراوي المنعزل داخل بيته المُستأجر، من قبل مينشيكي، المليونير الغامض؛ مالك البيت الأبيض الكبيرعلى الجانب الآخر من الطريق، كما يزوره أيضاً شبح صاحب المنزل الذي كان يسكنه سابقاً والذي اشتبك ذات مرة مع النازيين في فيينا في ثلاثينات القرن الماضي. ولكن عزلته انتُهِكت أيضاً من قبل القائد الشبح الذي كان بطول قدمين وبوجه شبيه بوجه إدوارد ج. روبنسون الذي يقفز من اللوحة مدّعياً أنه فكرة وبأسى يحذّر من الاستعارات المزدوجة .هنا تتكوّم العبثية وتتراكم، وتزداد الحكاية غرابة مع توالي الفصول.
وكما العادة، موراكامي بارع في تحييد الرتابة ووضعها جنباً إلى جنب مع ما هو خارق للمنطق؛ عاثراً على السحر المتداخل مع تفاصيل الحياة اليومية. بل ويسمح في مثل هكذا ظرف لعناصره المتباينة أن تتحرك على نطاق واسع للغاية، إلى الحدّ الذي يجعلها تبدأ بالظهور مترابطة ولو بوهن.
تبدو رواية موراكامي الرابعة عشر كما العمل الأول بالنسبة للكاتب، أي فيها الكثير من المبالغة والاكتئاب، وهي تبني نفسها بنفسها مع تطور السرد.
من هم هؤلاء الأرواح؟ ومن هؤلاء الناس الحقيقيون؟ عشيق البطل المتزوج الذي لم يرق إلى أكثر من موزع للحوار التفسيري والاستحسانات الجنسية، وهو المسؤول بشكل غير مباشر عن تصنيف الكتاب كدرجة ثانية وعلى أنه من الأعمال الأدبية غير اللائقة في هونغ كونغ. والأسوأ من ذلك أن شخصية القائد القزم الخيالي، التي تبيّن فيما بعد أنها شخصية أكثر اكتمالاً من شخصية ابنة مينشيكي البالغة من العمر ثلاثة عشر عاماً الممسوسة والمشهورة بقواها الخارقة، والتي تتحدّث كما لو أنه قد جرى تغذيتها بواسطة مترجم غوغل. يفضّل رسّام موراكامي بشكل لافت أن يترك بعض لوحاته غير مكتملة، وثمة إحساس سيخامر القارئ بأن الكاتب يقوم بذلك أيضاً. والمفارقة أن عدم اكتمال هذه الرواية الخادعة، المربكة والغاضبة أحياناً؛ تلك الرواية المنهمكة بمنحك ذلك الشعور بأن الجميع غير مكتمل، وأن العمل جارٍ، وكل حلّ هو بالتالي مجرد كذبة.
يمتلئ جانب الجبل عند موراكامي بالثقوب والبقع المظلمة، وبالوافدين والمغادرين. وحبكته تتكشّف كما هي وكما خبرها الراوي، مما يعني أنها مرهِقة مع نهايات فضفاضة. تُصوَّر شخصيته من أجل تتقدم في الاتجاه الصحيح. هو يحاول أن يكتب عن المغامرة الجديدة التي ستمنح لحياته المحطّمة معنى كي تلهيه عن مشكلة طلاقه. لذلك تظهر حكايته كقصة ولادة جديدة وخلّاقة، ومن ثم يتبدّل مسار القصة لتغدو دراسة عن الصداقات الحميمة للذكور؛ ثم قصة البيت المسكون؛ وأخيراً تلك الحكاية الغامضة عن أب وابنته. وكل مسلك مضبوط بدقة، ولو أنه بالإمكان أخذه بعيداً جداً.
هو يجرب أن يوضّح لنا كيف أنه «في عالمنا الواقعي هذا لاشيء بمقدوره أن يبقى على حاله إلى الأبد».

٭ بتصرّف عن الغارديان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    مقال جدير بالقراءة زادته المترجمة جمالًا وحبكة لغة أدبيّة ناضجة.ياليتك سيدتي تتحفيننا بالمزيد من هذا الطراز …رغم مقتل القائد.

إشترك في قائمتنا البريدية