درنة التي تعرف بـ”عروس برقة ” أو “درة المتوسط” هي مدينة ليبية جبلية ساحلية متوسطية شرقية تحدها من الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر. ويقسمها وادي درنة إلى نصفين، وهي التي قامت على ضفتيه وعلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، أي الدلتا. وتعرف درنة بمياهها العذبة المتدفقة من نبعين هما عين البلاد وعين بو منصور المعروفة بشلالها. وعلى غرار مدن الجبل الأخضر وإقليم برقة، تعرف مدينة درنة بجمالها الذي من عناصره كثرة الأشجار والمياه العذبة وأيضا النسيم البحري والجبلي العليل وهي خصائص نادرة الوجود في ليبيا التي لا تغطي الأشجار سوى 1 في المئة من مساحتها.
مناخ درنة متوسطي، معتدل حار صيفا وبارد شتاء مع ميل إلى الاعتدال في الفصلين، وتتراوح درجات الحرارة خلال فصل الشتاء في المدينة ما بين 9 و20 درجة، فيما ترتفع صيفا لتفوق الأربعين درجة. ويبلغ معدل هطول الأمطار السنوي فيها حوالي 600 مم وهو معدل معتبر يمكن من تغدية المائدة المائية بكميات هامة تنعكس على منابع الماء العذبة والجداول التي يشكلها سيلان هذه المياه.
تبلغ مساحة مقاطعة درنة ما يقارب 20.000 كيلومتر مربع يقطنها ما يقارب من 200.000 ألف نسمة ويستقر أغلبهم بالمنطقة الساحلية وتتنوع انتماءاتهم القبلية باعتبار الموقع المتميز لدرنة كهمزة وصل بين المشرق والمغرب استقطبت الهجرات من ليبيا ومن خارجها على غرار الأندلس. ومن أهم قبائل درنة البراعصة والحاسة وعزوز من الأندلس والعوامي والمسماري والشواعرة من المرابطين، وبدر والطشاني من التواجير، وشنيب ووربي من الطواهر، وبو جيدار من الدرسة، والمريمي والمنصوري وغيث من العبيدات وبن خيال وبن حليم من زليتن وأسديسي من ورفلة، وبو خشيم من مصراته.
تاريخ عريق
خلافا للغرب الليبي المنتمي حضاريا وتاريخيا إلى المغرب العربي وكان ضمن دائرة نفوذ جمهورية قرطاج ولاحقا ضمن مقاطعة أفريكا الرومانية التي تضم تونس الحالية وغرب ليبيا وشرق الجزائر، فإن الشرق الليبي كان ضمن دائرة نفوذ الحضارة الإغريقية ومن ذلك مدينة درنة. فخلال الحقبة اليونانية التي عاشها شرق ليبيا بالتوازي مع الساحل المصري المتوسطي وتحديدا خلال الفترة الهيلينستية، عرفت درنة باسم إيراسا وكانت تشكل مع أربع مدن أخرى مملكة تسمى بيتاووس.
وبعد سقوط قرطاج وجدت روما الطريق معبدة للهيمنة على الحوض المتوسطي فاستولت على مناطق نفوذ القرطاجيين والإغريق على حد سواء وخضعت درنة لقرون إلى الرومان. وبعد سقوط روما وتشتت مستعمراتها بين الأمم الغازية والمتمردين أراد البيزنطيون في القسطنطينية الاستيلاء على إرث روما باعتبارهم الإمبراطورية الرومانية الشرقية والأحق بهذا الإرث فاستولوا على مناطق عديدة منها درنة ومحيطها.
واعتنق سكان درنة الإسلام منذ القرن الأول للهجرة مع قدوم العرب إلى إقليم برقة فتحا وهجرة، لتكون المنطلق لفتح المنطقة المغاربية وتأسيس حاضرة إسلامية هي مدينة القيروان التونسية تكون قاعدة الارتكاز لحكم بلاد المغرب الكبير والانطلاق نحو الأندلس. فأصبحت درنة وكذا محيطها مناطق نفوذ للدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة ولاحقا في الكوفة في عهد علي بن أبي طالب. ثم خضعت للأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد والفاطميين في المهدية والقيروان في تونس قبل انتقال هذه الدولة إلى القاهرة للاقتراب من بغداد حيث الخلافة العباسية لإنهائها والحلول مكانها.
ومر بنو هلال وبنو سليم في غزوهم وتخريبهم للقيروان من مدينة درنة بعد أن حرضهم الخليفة الفاطمي في القاهرة على الصنهاجيين في القيروان الذين استقلوا بحكم إفريقية (تونس شرق الجزائر وغرب ليبيا). واستقر عدد كبير من بني هلال في محيط درنة ومناطق هامة من ليبيا اليوم وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والقبلي في البلدان المغاربية جميعا ومن دون استثناء.
وبعد حقبة هامة من الفوضى في شمال أفريقيا والصراع على الهيمنة على المتوسط بين العثمانيين والإسبان، سيطر سلاطين الباب العالي على معظم الشمال الأفريقي وتطورت معهم درنة وأصبحت تلعب دورا هاما خاصة مع بداية القرن السابع عشر في فترة حكم الأسرة القرمنلية. حيث هيمنت درنة على بعض المدن المحيطة بها بعد حرب دامت أربع سنوات وتحولت إلى مركز إداري وتجاري ساعدها في ذلك موقعها الهام الواقع على الطريق بين المشرق والمغرب وميناؤها وأراضيها الخصبة.
وفي أواخر القرن السابع عشر ظهر في درنة الشيخ محمد بي، الذي اشتهر بحسن الإدارة والتقوى والورع، فتجمع الناس حوله لما للطرق الصوفية من أهمية في الحياة الروحية والاجتماعية في منطقة شمال أفريقيا. فقد قام الشيخ الصالح بشق أولى قنوات المياه في درنة وأنشأ الجامع الكبير بالمدينة مستعملا أعمدة الآثار القديمة على غرار ما حصل في عملية بناء أغلب المساجد القديمة في شمال أفريقيا.
وتعرضت درنة إلى الاحتلال الإيطالي إلى حدود الحرب العالمية الثانية حيث بقيت مسرحا للقتال بين الإيطاليين والبريطانيين وبينهم وبين الألمان حلفاء الإيطاليين. وآلت بالنهاية إلى البريطانيين قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية وقبل حتى أن تحسم معركة شمال أفريقيا في تونس التي التقت فيها قوات المحور القادمة من ليبيا وقوات الحلفاء القادمة من أقصى المغرب بعد الانزال الأمريكي، وحسم الجنرال البريطاني مونتغمري المعركة لصالحه أمام الجنرال رومل الألماني في منطقة مارث في الجنوب التونسي.
وعاشت درنة فترة ازدهارها كما أغلب مدن الشرق الليبي خلال فترة حكم الملك إدريس السنوسي وذلك بعد استقلال ليبيا كما خضعت لنظام القذافي إلى حين الإطاحة به سنة 2011. واستغلت مجموعات مسلحة تكفيرية حالة الفوضى وانهيار الدولة وسيطرت على المدينة وتم إعلان درنة إمارة إسلامية تابعة لداعش قبل أن يتم تحريرها سنة 2015.
معالم
من أهم معالم درنة الجامع الكبير أو العتيق الذي بني على يد محمد باي أو محمد بي سنة 1663م 1081هـ الذي حكم مدينة درنة في الفترة العثمانية الأولى واستغرق بناء المسجد 12 سنة. ومن معالم المدينة أيضا مسجد الصحابة الذي بني سنة 1973 وهو من أكبر المساجد في المنطقة الشرقية وبني بجوار مقبرة الصحابة في مكان المعركة التي استشهد فيها سبعون من الصحابة.
ومن المعالم أيضا مقبرة الصحابة التي يعتقد أنها تضم سبعين صحابيا منهم أبو منصور الفارسي وعبد الله بن بر القيسي وزهير بن قيس البلوي رغم أن الأخير له ضريح في مدينة القيروان التونسية وينعت بسيدي الصحبي أي الصحابي، وهو رمز من رموز هذه الحاضرة الإسلامية ويزوره أهلها وزائرو المدينة من مختلف أنحاء العالم منذ قرون ويروى أنه استشهد بمنطقة عين جالولاء قرب القيروان.
ومن المعالم أيضا بيت درنة الثقافي وهو جمعية ثقافية تأسست سنة 1977 وافتتحت رسميا في 11 كانون ثاني/يناير 1998 وتتخذ الجمعية التي يلتقي فيها مثقفو درنة من إحدى الكنائس القديمة مقرا لها. وتنظم هذه الجمعية عديد المهرجانات الثقافية في المسرح والرسم والشعر والموسيقى والسينما وغيرها من الفنون التي تدل على رقي سكان درنة.
وتوجد في درنة كنائس مسيحية ومعابد يهودية ومعالم أخرى عديدة تدل على عراقة المدينة تاريخيا وعلى تسامح أبنائها وانفتاحهم على الآخر وقبولهم بالتعايش مع من يخالفهم الرأي والمعتقد والانتماء القبلي وحتى العرقي. ويرجع كثر هذا الرقي الحضاري لدى سكان درنة إلى تأثرهم بالحضارة الأندلسية باعتبار أن المدينة على غرار كثير من حواضر بلدان المغرب العربي كانت مقصدا للهجرات الأندلسية بعد نهاية الدولة الإسلامية في إسبانيا.
عودة الحياة
شجعت خصوبة الأراضي وتوفر المياه بكميات هامة، سكان درنة على تعاطي النشاط الزراعي منذ القديم وخصوصا الزراعات السقوية على غرار الخضر والغلال. كما يقبل فلاحو درنة على تربية المواشي باعتبار توفر المراعي في مختلف أنحاء المقاطعة وتعرف مواشي درنة وإبلها بجودة لحومها على المستوى الوطني. وتضم المدينة ميناء للصيد البحري جعل أبناءها يقبلون أيضا على تعاطي هذا النشاط لتوفير أجود أنواع الأسماك المتوسطية.
وتوجد في المدينة بعض الأنشطة الصناعية التحويلية للمنتوجات الزراعية وصناعة النسيج والإسمنت وغيرها. وتنشط السياحة الداخلية في درنة بسبب ما يتوفر فيها من طبيعة خلابة أساسها البحر والغطاء النباتي الكثيف مقارنة بغيرها من المدن الليبية. كما يجذب الليبيين إلى درنة طرازها المعماري الجميل وحياتها الثقافية اللافتة للانتباه.
لكن احتلال المدينة من قبل “داعش” خلال السنوات الماضية ومرور ظلام الإرهاب بها ضمن مشروع معاد للحياة، ومناهض للتسامح، ورافض لمبدأ التعايش بين أبناء الدين الواحد فما بالك ببقية الأديان والمعتقدات، جعلها تفقد الكثير من خصائصها. وهي اليوم بصدد لملمة جراحها لتعود إلى سابق عهدها، مدينة للتسامح بين الأديان والثقافات وأرضاً للتعايش والحوار وينبوعاً للفن والإبداع والجمال.
وتشهد درنة اليوم عمليات ترميم للمنشآت الدينية وللمعالم الأثرية التي تعرضت للضرر بسبب الصراع بين الجماعات الإرهابية التي كانت تتنافس على بسط نفوذها عليها أو بسبب العمليات العسكرية خلال معارك تحريرها. وهناك رغبة حقيقية من أبناء المدينة لإرجاع مدينتهم قطبا ثقافيا وسياحيا في ليبيا من خلال دعم وسائل الإعلام المحلية والمهرجانات الثقافية على غرار مهرجان درنة الزاهرة الدولي للمسرح والذي انتظمت إحدى جولاته مباشرة بعد طرد الإرهاب من المدينة وسميت الدورة “دورة الراحل خليفة بن زابيه” وانتظمت تحت شعار “المسرح يجمعنا” بإشراف فرقة أجيال للمسرح والفنون.
كما حصلت جهود لتوفير مقرات وتجهيزات للجمعيات الثقافية على غرار جمعية الهيلع للدراسات الميدانية وفرقة الفنون الشعبية ومسرح الطفل وصيانة المسرح. كما حصلت جهود لافتة لإنشاء مراكز ثقافية تقوم بدورها في التثقيف ونشر الوعي في صفوف المواطنين. وبالتالي فإن محاربة الإرهاب في درنة لا يبدو أنها ارتكزت فقط على المعالجة الأمنية بل تضمنت مقاربة شاملة فيها التربوي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي غيره.
طائر الفينيق
وفي هذا الإطار يعتبر الباحث الليبي جمال المسماري ابن مدينة درنة في حديثه لـ”القدس العربي” أن مدينته لم تأخذ حظها سابقا من الدعاية ولم تنل شهرة مدن ليبية أخرى رغم أهميتها من ناحية الموقع ومن ناحية ما تزخر به من ثروات. ذلك أن الدولة الليبية، وحسب محدثنا، لم تستغل كما يجب خصائص وثروات كثير من مدنها ومن ذلك درنة لتطور موارد اقتصادية أخرى غير النفط لتتكل عليه.
ويضيف قائلا: “لقد توقعنا بعد الإطاحة بنظام القذافي أن يتم الالتفات إلى درنة والاستثمار في زراعتها وتطويرها وتنمية بناها التحتية السياحية من فنادق وطرقات وغيرها والعناية بمهرجاناتها الثقافية. لكن شيئا من ذلك لم يحصل بعد أن هجمت قوى الإرهاب على المدينة وقطعت الرؤوس في مساجدها وأعادتها قرونا إلى الوراء وزادت حرب تحرير المدينة في إلحاق الدمار بها.
الآن وعوض التفكير في تطوير درنة عروس برقة والمتوسط والنهوض بها في شتى الميادين، أصبحنا نبحث عن إعادة إعمارها نتيجة الخراب الذي طالها والسنوات العجاف التي مرت بها. وأعتقد أن استهداف درنة من دون غيرها من المدن لتكون إمارة تكفيرية لم يكن صدفة، بل لأن ما في المدينة من تعايش بين الملل والنحل ومن نهضة ثقافية وفنية أزعج قوى الإرهاب والأعداء الذين يرغبون في رؤية ليبيا متخلفة يتقاتل أبناؤها بين بعضهم البعض.
ان استهداف درنة كان استهدافا رمزيا للحضارة في ليبيا وللفكر المستنير ولثقافة التعايش والوئام والتآخي بين أبناء الوطن الواحد، كان انتقاما من الفن وحب الحياة وطيبة الإنسان الليبي في درنة. لكن الإيجابي أن المدينة لم تندثر وبقيت صامدة وتحررت من قوى الظلام وهي اليوم تلملم جراحها وتنهض من جديد كطائر الفينيق الذي يخرج سليما معافى في عنفوانه من تحت الرماد.
ستعود درنة كما كانت وسيعود إليها أهلها الذين غادروها جميعا وستنهض بأبنائها من جديد، ففيها كل المقومات لتكون مدينة عامرة تعج بالحياة قادرة على الاستقطاب كما كانت في السابق. فمنابع مياهها الصافية لم تنضب ولا بساتينها الفيحاء اندثرت ولا شواطئها المتوسطية اختفت ولا طيبة أهلها وميلهم إلى الثقافة والفن وحب المعرفة قد تراجع، لذلك ستعود إلى سيرتها الأولى إن عاجلا أم آجلا وسيتغنى بها الشعراء كدأبهم على الدوام”.