الكتب الرديئة

اعتدت على أن أمرّ أحيانا على صفحات القراءة في الإنترنت، أو حتى أشارك في مجموعة قرائية، لها نشاط كبير، للاستفادة من آراء كثير من القراء الأذكياء، الذين يثرون النصوص التي يتعرضون لها بلا شك، وأيضا لمتابعة ما يمكن أن يسمى قراءة بلا وعي، أو لا قراءة على الإطلاق، من خلال آراء تبدو كتبت هكذا عشوائيا، من أشخاص بلا هم معرفي، ويتبعون المجموعات المعرفية هذه، بلا هدف.
في إحدى المجموعات التي تابعتها فترة من الزمن، عثرت على قارئ، كتب عن كتاب رائج ومهم، بأنه نظرا لرداءته، فقد تم وضعه على الرف المخصص للكتب التافهة في مكتبته، التي تضم كتبا كثيرة، هو قرأها، وصنفها، ويضعها على رف تحتي، في المكتبة نوعا من التنكيل بها، ولن يعيرها لأي شخص، ذلك أنه لا يود المساهمة في خدش ذوق القراء.
هذا العرض المذهل لما سمي بالكتب الرديئة، أو التافهة، ومن مدون في الإنترنت لا يْعرف حجم ثقافته، ولا إن كان فعلا يقرأ الكتب ويقيمها؟ وما هي معايير تقييمه لها؟ يمكن تجاهله بلا شك، وفي الإنترنت ملايين الآراء يمكن تجاهلها، وعدم الالتفات إليها كونها بلا أساس، ولا مرجعية تتكئ عليها، وحتى توجد آراء علمية يمكن تجاهلها، وكلنا نطالع هذه الأيام آلاف الكتابات والآمال والإحباطات عن فيروس كوفيد 19، ولا نعرف صحتها من عدم صحتها، كونها إما اجتهادات شخصية، أو إدلاء بدلو، في بئر تسمح بإدلاء الدلاء، من دون أن يسأل عن هوية من أدلى.
قلت إن الرأي الذي دوّن عن ما سمي بالكتب السيئة، يمكن تجاهله، لكن في الحقيقة لم أفعل ذلك، لأن هناك دائما ما يمكن أن يقال في هذه المواضيع، خاصة أنني أعمل في هذا المجال منذ سنوات طويلة، وقدمت أشياء كانت اجتهادات، أصابت حينا وأخطأت أحيانا.

قراء آخرون لاحظت أنهم كانوا هادئين ورصينين، زمنا طويلا وهم يعرضون الكتب التي اقتنوها، أو يستعرضون محتوياتها، ثم فجأة تحولوا إلى كتّاب ونشروا روايات، وعثرت تلك الروايات على من يعجب بها، ويمنحها تقييما عاليا.

بكل بساطة، لا يوجد ما يسمى بالكتب الرديئة، أو ليس من المفروض أن يُقيم الكتاب، أيا كان نوعه، وأسلوب كتابته، ودرجة ملله، أو سطحيته بنجمة واحدة، أو يُقيّم بلا نجمة كما اعتاد بعض من يزعمون أنهم قراء، تقييم الكتب. نعم لا بد من أسلوب متميز حتى في الكتابات العلمية، لا بد من لغة صحيحة، ولا بد من أفكار تتجمع لتشكل الموضوع المراد الكتابة عنه، ولكن في المقابل يوجد مجهود الكاتب الذي لا يلتفت إليه أحد، فالكاتب يجلس ساعات طويلة، ينحت ذهنه، محاولا أن يكتب، وقد لا يأتيه شيء، ولكنه لا يتوقف، ليأتي في النهاية من يضع كتابه على رف سماه رف الأعمال الرديئة. أقل شيء النظر إلى مجهود الكاتب، وليس معنى أنك مللت من القراءة، أو صادفتك بعض الأخطاء اللغوية، أو لم تبهرك المواقف التي أوردها الكاتب في رواية، أو حتى أبكتك قصة حزينة، أو آمال بطل القصة لا تشبه آمالك، أن الكتاب رديء، علينا تصحيح هذا المفهوم، خاصة في موضوع الفكرة، فالأفكار مهما تشعبت، تبدو محدودة، وكل كاتب قد يستخدم الفكرة ذاتها التي استخدمها غيره من قبل، ولكن بطريقة مختلفة، وينبغي أن لا يردد أحدهم: الفكرة مستهلكة. ولو سألت عن الاستهلاك هذا، فلن يستطيع كاتب هذه الجملة إجابتك، إنه يكتب فقط بلا استناد إلى شيء.
في إحدى المرات، ذكر أحد القراء جملة «رحم الأم» التي وردت في رواية لي، وكتب أنها جملة جنسية، خادشة للحياء العام، واستغربت ذلك فعلا، فرحم الأم هو الذي يضمنا نطفا، لنكبر داخل تجويفه، قبل أن نخرج ونواجه الحياة، لذلك يؤكد الدين الإسلامي على صلة الرحم، التي اعتبرها أهم الوشائج في مفهوم القرابة، ودعا إلى عدم قطعها. كيف أصبح رحم الأم إذن إيحاء خادشا للحياء العام؟ هذا ما لم أستطع معرفته، وتمنيت أن ألتقي بذلك القارئ في مكان ما، أو على الأقل افتراضيا لأسأله، لكن لم يحدث ذلك مع الأسف. القارئ هنا لم يتعمد الإساءة إلى نصي، هذا مؤكد، هو قرأ الكتاب، وهذا واضح من تعرضه له، لكن لأن معرفته بالإيحاءات وغيرها محدودة في رأيي، وربما تعتبر خصائص المرأة كلها بما في ذلك أوردتها وشرايينها، وحتى داء الضغط والسكر وتصلب العروق التي قد تصيبها، في المجتمع الذي يعيش فيه، إيحاء خادشا، كتب ما كتب، وأظن يمكن تجاوز هذه النقطة، أملا في أن تزداد معرفة قارئ مثل هذا، ويستطيع التمييز بين ما هو اجتماعي وإنساني وما هو جنسي خادش.
قراء آخرون لاحظت أنهم كانوا هادئين ورصينين، زمنا طويلا وهم يعرضون الكتب التي اقتنوها، أو يستعرضون محتوياتها، ثم فجأة تحولوا إلى كتّاب ونشروا روايات، وعثرت تلك الروايات على من يعجب بها، ويمنحها تقييما عاليا. هؤلاء الآن فقدوا رصانتهم وتحولوا إلى سكاكين جارحة، تتعرض إلى تجارب من سبقوهم بكثير من العنف، وتمنح تلك التقييمات غير المنصفة، التي ذكرت عدم جدواها، وربما هي فقط إرضاء لغرور، أيضا غير مجد ويجب أن لا يتكون أصلا عند كاتب مبتدئ.
أخلص إلى القول، إن عالم الإنترنت وإمكانية إيصال الصوت البعيد المنطفئ في ما مضى، إلى أبعد مدى الآن، وأيضا إمكانية العثور على الكتب من دون بحث، كونها مقرصنة ومتاحة على الإنترنت، جعلا من التعرض للتجارب الكتابية الكبرى، أمرا سهلا للغاية، ولدرجة أن تصنف بعض الكتب بأنها رديئة أو تافهة، وتعزل على رف خاص داخل المكتبة، في ما يشبه العزل الطبي أو الكرنتينة.

٭ كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد الحسنات:

    أمير، طبيب،قارىءمتابع ومهتم بعالم الغرفة ومعارض الكتاب،
    لي كتاب،، الربيع العربي وحقوق الإنسان،، صدر في عمان ٢٠١٧

    كيف تسعدني بقبوله هدية مني ؟

إشترك في قائمتنا البريدية