بعد نضوجه أخذ بروتاجوراس يعلم القوانين في مدرسة القانون، التي أسسها هو في أثينا، لقاء أجر عالٍ، وفي أحد الأيام جاءه شاب صغير فقير، قال له: أنا أريد أن أكون محامياً، لكنني لا أملك ما أدفعه لك مقدماً، إن علمتني كيف أصبح محامياً، فسأعطيك أتعابك في أوّل قضيّة أكسبها.
بعد ذلك سجل اسمه في سجل المحامين، مبرزاً الشهادة الموقعة من قبل بروتاجوراس، لكنه بعد أن فعل ذلك، ذهب إلى بروتاجوراس، وقال له: قررت ألّا أعطيك فلساً واحداً، فافعل ما بدا لك. «يعني باللهجة العراقية انطح رأسك بالحائط»، فما كان من بروتاجوراس إلا أن رفع ضده قضية في المحكمة.
عندما دخل المحكمة وقف القضاة جميعاً احتراماً له، لأنه ساهم في تدريسهم القانون، بل أسس القانون، ثم نادوا على المتهم. وحين حضر قال للقاضي: سيدي القاضي أنا كاسب القضية في الحالتين، إذا اعتبرتني خاسراً لها فلا يترتب عليّ دفع فلس واحد، لأن شرطي كان منذ البداية أن أدفع حين أربح، أما إن ربحت القضية فسآخذ أجرتي منه ثم أدفعها له ثمناً لتدريسي القانون. وهذا يعني أنني لن أدفع فلساً واحداً، وأنني كسبت القضية. فالتفت القاضي إلى بروتاجوراس وقال له ماذا تقول يا أستاذ؟ قال بروتاجوراس: سيدي أنا كاسب القضية في حالتي الحكم عليّ أو الحكم عليه، لأنكم إن اعتبرتموه صاحب الحق، أي أنه ربح القضية، فهذا يعني أنه يجب أن يعطيني حقي، وفق القانون، لأن العقد ينص دفع الأجور في حالة ربح القضية. أما إن اعتبرتموني صاحب الحق، فصاحب الحق يعني أن يأخذ الأتعاب من الطرف الآخر.
فكّر القاضي طويلاً، وقال لهما سنؤجل الحكم إلى الغد، ثم جمع فقهاء القانون، وأخذ رأي القضاة الآخرين، فاتفقوا جميعاً ألّا حل لهذه القضية في الوقت الحاضر، لتكافؤ الأدلة، وعليهم الانتظار مئة سنة في الأقل. وبهذا الحكم سجلت السفسطائية نصراً هائلا، في أول قضية متنازع عليها وسابقة ليس لها مثيل في القانون والفلسفة، وأثبتت أن ما يقره الإنسان مهما بلغت منزلته ليس ثابتا، وأن الفكر الإنساني يتجاوز الكثير من العقبات مرة بعد مرة.
بروتاجوراس درس الفلسفة في أثينا منذ صغره، وفي الثلاثين استوى على قدميه، فيلسوفاً موسوعياً، بدأ ينتقل من بلد إلى بلد، يعلّم أبناء الأثرياء الفلسفة بأجر عالٍ، فأفسد الشباب، ولقّبه سقراط بالسفسطائي، وبلغ أوج انتصاراته عندما وضع قانون بلاده، وبظهوره ظهرت السفسطائية، وانتشرت كالهشيم، ولم يعد بإمكان أي كان أن يحاربها، على الرغم من حرق كتبه غير مرة، لأن الحكم كان في أثينا ديمقراطياً، فمرة ينتصر حزب مؤيد للسفسطائيين، وأخرى ينتصر أعداؤهم، فإن انتصر الأعداء قدم بروتاجوراس للمحكمة، وتظاهر جمع غفير يطالب بإعدامه وحرق كتابه (عن الآلهة) وإن انتصر السفسطائيون رفع كتابه «عن الآلهة» واعتبروه دستوراً للمجتمع، لكن وضع السفسطائيين بقي كقطة فوق صفيح متأرجح، إن توهجت النار احترقوا، وإن خفتت نجوا، فقد أعدم أحد أهم المتأثرين به الفيلسفوف هيباسي، وأجبر آخر «بروديفوس» على تناول السم.
ترك بروتاجوراس بعد وفاته الكثير من الكتب، عن العلم، عن الرياضيات، عن الحكومة، في الفضائل، في الطبيعة وحقائق الأشياء، في الطمع، في أخطاء البشر، في الحجج المتناقضة، إضافة إلى «عن الآلهة»، لكن معظم هذه الكتب فقدت ولم تبق إلّا نتف صغيرة، من كل منها، ولعل أهم عبارة فلسفية قالها بروتاجوراس
«الإنسان مقياس الأشياء جميعها». لأنها أصبحت على لسان كل المثقفين، على الرغم من كونها أثارت الكثير من اللغط والاحتجاج، فالبشر متفاوتون في إدراكهم، فهناك إدراك لا يزيد عن إدراك الحيوان، وإدراك آخر عميق يستطيع تفهم الإمور المتناقضة بعمق، فعن أي إنسان يتكلم بروتاجوراس؟ ولأن الإنسان مقياس كل شيء فيجيب أن يكون كل البشر أحراراً، يعني أن تختفي طبقة العبيد، وهذه جريمة في نظر الأغنياء، والأرستقراطيين، فعلى سبيل المثال كان أرسطو من المدافعين عن وجود الرقيق، وفي رأيه يعتبر نقص الرقيق، يستوجب وجود الحرب؟ ولذا تضاءلت الفلسفة القديمة، خاصة في الوقت الحاضر، فمقياس الخير والشر في وقتنا هذا هو مصلحة الناس وحريتهم وحقوقهم، أي أن بروتاجوراس على الرغم من كونه عاش في الماضي، إلا أنه هو حقاً فيسلسوف الوقت الحاضر والمستقبل أيضاً.
٭ كاتب عراقي
لا فض فوك ؛ ” الانسان مقياس الأشياء جميعها״.جملة في صميم ولب الواقع للفيلسوف اليوناني بروتاجوراس ، فهي جملة مفتاحية للعديد من القضايا في مجتمعنا وأزماته على مر العصور .