آمال ديمقراطية متلاشية ورؤية سياسية منعزلة عن تطلعات الشعوب

الاحتجاجات الشعبية في لبنان وغيرها من دول المنطقة، أكبر دليل على اهتراء مفهوم السيادة، وضعف الدولة كعلاقة اجتماعية في تشكيلتها القُطْرية، ففي حال عجز الدولة بأن يكون لها دور استراتيجي في تحقيق الاندماج والتكامل حول هوية مركزية كلية متجانسة، ما يعني أنه الانتماء إلى أرض ودولة وأمة، في كيان سيادي واحد، يصبح من الصعوبة في مرحلة ما أن تضبط فوضى المجتمع، وخلل المؤسسات الذي يعد من تداعيات فشلها في تكوين الدولة المدنية الحديثة، في إطار التوحيد القومي الذي يقوم على تحويل العلاقات «الأولية الشخصانية أو العمودية» التي تُمأسسها السلطات التقليدية الوسيطة، إلى علاقات ثانوية أفقية قومية و»غير شخصانية»، تعلو فوق الحالات الوشائجية وانتماءات الفرد الطبيعية، كالعشيرة والقبيلة والطائفة.
وخلق ما سماه جمال باروت بنموذج «التمازج»، أحد المفاهيم الماركسية، وهو في تقديره المضمون الأساسي للمفهوم القومي الاندماجي التجانسي الحديث للأمة، الذي يتأسس مرجعيا على ظروف تكون الدول الحديثة في أوروبا الغربية مثلا، في سياق التحول من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، وهو ما حدث فعلا إثر معاهدة وستفاليا 1648 التي أنهت حرب الأقليات في أوروبا.

علينا أن نميز النموذج الأمثل، الذي نرغب فيه في تصورنا للدولة، وأن نجد رابطا مشتركا وإطارا جامعا يتفق الجميع حوله

ويغدو تفاعل الحكومات مع عملية التحول الاجتماعي محدودا بمحدودية رؤية نخبها السياسية نفسها، لواجبات العمل الوطني وأولوياته، ويحدث ذلك في إطار نظام دولي معقد، فرض على الدولة القطرية «التقومن السيادي» في حدودها «المصطنعة»، وهو نفسه في إطار تحوله إلى نظام عالمي ينزع عنه هذا المضمون ويفككه وينتقص من سلطاته السيادية. وتواصل القوى الدولية المتحكمة في صيرورة العولمة، أو «الكوكبة»، محاولاتها من أجل عولمة الثقافة والتعليم والدين، وسائر مكونات المنظومة الحضارية، ما يعني سلخ الشعوب من هويتها المحلية، وكيانها الحضاري التاريخي، ونسف استقلالها النسبي، خارج دوائر وقيم السوق العالمية. وفي الأثناء فإن سطوة المصالح التي تجسدها الشركات المتعددة الجنسيات، التي تسيطر على ما يفوق 80% من التجارة العالمية، والاستثمارات الدولية، وتتحكم بصورة شبه مطلقة في حركة السوق، خصوصا في مجالات الاتصالات والفضائيات والمعلومات، والأدوية والبحث العلمي، والإعلانات والعلاقات العامة، هي في مجملها معوقات تحُول دون قيام الدولة بأدوارها المفترضة، وحين يجتمع فساد منظومة الحكم مع سياسات الخنق المالي، والتبعية الاقتصادية، من الطبيعي أن يتدهور سعر العملة الوطنية، ويتفاقم الكساد والتضخم وتزداد الأوضاع المعيشية تدهورا.
لم يتردد المثقفون إزاء السياسات العالمية، في تقديم رؤى حول عودة النزاعات التقليدية باسم الحداثة، التي تخفي الهيمنة الإمبريالية. وتكشف العقود الأخيرة عن سيطرة الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، وعن تطور النزاع بين الثقافات والقوميات المختلفة. وفي الأثناء أصبحت القيم الغربية خارج حدود جغرافيتها، أدوات للتطويع والتبشير، والإلهاء والخداع، وشق الصف الوطني وشحذ نوازع الاقصاء المتبادل، على اعتبار أن صورة الشعوب العربية والإسلامية وُضعت بشكل فظ في «قوالب جاهزة»، ضمن أشكال الخطاب الغربي على مدى فترة طويلة من الزمن، وجرى الاعتقاد ضمن الخطاب الاستشراقي الغربي حول ضرورة تشويه الشرق وحضارته، بأن أصبح مرتبطا في أدبيات الاستشراق بالقسوة والاستبداد والخداع والظلم. وهي قوالب نمطية مأتاها أيديولوجيا، الهيمنة وإقصاء الآخر خارج المعيار الموضوعي. وبسبب مقتضيات الاستقرار النفطي والتجاري، يغضون الطرف عن الحكومات الفاسدة التي تفتِك بالدولة، وتحولها إلى كيان جيوبوليتيكي هش بمباركة غربية إمبريالية، وينتهي الأمر بأن تفقد مؤسساتها الحاكمة ثقة مواطنيها، الذين تدهورت أحوالهم الاجتماعية، وتقلصت قدراتهم الشرائية بشكل يجعلهم يحقدون على من يديرون شؤون الحكم بطرق انتهازية منفعية، ويخدمون مصالحهم الفردية والفئوية، بدون أدنى اهتمام بالدور الاجتماعي للدولة، الذي من شأنه أن يُقلص خيبة أمل فئات واسعة من الشعوب العربية ترى دولها ضعيفة سياسيا ومهزومة دبلوماسيا، وقد تم احتواؤها اقتصاديا وماليا ضمن شبكات العولمة الآسرة.
كأننا بالديمقراطية التي اعتبرها الفلاسفة القدامى أدنى الأنظمة، لارتباطها بقوى الطبيعة، وما تعنيه من تسلط وغلبة وسيادة الأقوى، أصبحت تمثل اليوم عبئا على سيادة الدول، لحشرها بين المطرقة المتمثلة بانتهازية النخب السياسية والمالية والثقافية، وسندان الجماهير التي تفتقر في جزء كبير منها إلى الثقافة الديمقراطية، بعد أن تم تدجينها بفعل سياسات الاستعمار الجديدة. وعوض تفعيل التواصل الحضاري، وضخ دماء جديدة في إنسانيتنا المشتركة، ابتعدنا أشواطا عن مضامينها الأخلاقية ومطالبها القيمية، خاصة بعد التحولات في إطار أيديولوجيا الليبرالية المتوحشة. وبين الموجود والمنشود، تتواصل خيبات النظام الديمقراطي في الغرب نفسه، على غرار ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية من حراك اجتماعي وغضب شعبي، نتيجة عجز الدولة التي تفاخرت بديمقراطيتها، في خلق تجانس وطني، وحلّ معضلة العنصرية «النظامية»، التي تهدد بتفكيك المجتمع وخلق حالة من الفوضى الأهلية. فظهور المبدأ الديمقراطي الحديث يتنافى والاستغلال الفردي والاجتماعي، إنه يدعو إلى وجوب الاهتمام بالفرد اهتماما شاملا، وإلى ضرورة نشر العدل والحرية والمساواة بين أفراد الشعب جميعا. ومن عوائق الديمقراطية عربيا أن مشكلة المستبد ليس إلا «الإسقاط الذاتي» لمشكل السلطة، في صورة آثمة مَرَضِية، تشكل المستبد ونظيره المهان. والديكتاتوريات العسكرية في دول عربية معروفة قد أخلصت لهذا «النموذج»، وجمعت بين الاستبداد المادي، ويتمثل في العنف الذي تمارسه الدولة، والاستبداد بالرأي، ويتجلى في فرض رقابة على التفكير وكتم الأنفاس وإقصاء الرأي الآخر.
الحاضر مقلق وبائس، ولا يكف عن كونه نسيجا من الإقصاءات والصراع المحتدم، الذي غيب المشروع الأنبل فكرا وسياسة، وبالمحصلة علينا أن نميز النموذج الأمثل، الذي نرغب فيه في تصورنا للدولة، وأن نجد رابطا مشتركا وإطارا جامعا يتفق الجميع حوله، خدمة للدولة والمجتمع والتخلص من روابط الأيديولوجيا الحزبية أو المذهبية أو الطائفية، مصدر جميع النزاعات في الوطن العربي.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية