قبل نحوٍ من ستّ سنوات، أنشأ المركز الدولي للعدالة الانتقالية مكتباً له في بيروت. كان المركز يصل إلى الديار اللبنانية متأخّراً نحواً من ثماني سنواتٍ عن تأسيسه في نيويورك ونحواً من عشرين سنة عن انطلاق العمل بفكرة العدالة الانتقالية في دول مختلفة من العالم أخذت تنتقل إلى الديمقراطية… وكان «انتقالـ»ها هذا تخلّصاً من أنظمة ونزاعات خلّفت إرثاً شاسعاً من انتهاك الحقوق وضحايا يحصون بالملايين وخراباً عميماً. أجدَر بالإشارة من هذا التأخير عن ولادة السعي إلى هذا النوع من العدالة أن هذه الولادة نفسها كانت قد زامنت، على التقريب، نهاية الحرب اللبنانية الطويلة أو سلسلة الحروب التي اصطلح على القول أنها بدأت سنة 1975 واختتمت سنة 1990.
اصطُلح على الأخذ بهذين التاريخين بسندٍ من وقائع وجيهةٍ، لا ريب، ولكن وجاهتها لا تمنع الجدل في أمر البداية التي لا يتعذّر تعيينها بحرب حزيران 1967 أو بانتخابات 1968 النيابية في لبنان أو بأيلول 1970 المعروف بـ»الأسود» في الأردن… ويتعذّر القطع بانتهائها في بلاد عرفت جولات من العنف المدمّر بعدها وشهدت ولا تزال تشهد نذراً باستئناف حرب قد يصحّ وصفها بالأهلية ولكنها، مع ذلك، تبدو، شأنَ سابقتها، عصيّةً على الحصر في تعريفٍ واحد. أمرٌ أخير يستحقّ التنويه ههنا هو أن المركز العالمي الذي نتناول سعيه اللبناني عمل أو هو لا يزال يعمل في نيّفٍ وعشرين دولة من دول العالم وجدها محتاجةً إلى جهوده. بين تلك الدول واحدةٌ عربية غير لبنان هي تونس: ويبدو مستقبل العمل فيها واعداً إذ هو يحصل بتآزرٍ ما بين المركز وحكومة البلاد وتدور فصوله في أعقاب ثورة مشهودة وانتقال جارٍ فعلاً.
أنتج المركز بعد حلوله في بيروت بضعة تقارير لا تخلو من الفائدة العملية حين يراد استذكار ما كانته الحرب اللبنانية وما أوقعته من أذى مقترن بتواريخ وحوادث ومنتهٍ إلى ضحايا وأضرار لا يستغني السعي إلى العدالة عن تعيينها وحصرها إذا أريد له أن يكون ذا ثمرة. من ذلك «مسحٌ للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ما بين عامي 1975 و2008» وقد جعل لهذا التقرير عنواناً «إرث لبنان من العنف السياسي». من ذلك أيضاً تقرير عنوانه:»عدم التعامل مع الماضي: أيّ تكلفةٍ على لبنان؟» هذا التقرير الأخير تناول بالنقد ما اتّخذته الدولة اللبنانية من تدابير وإجراءات قانونية وعملية لمعالجة آثار الحرب، على اختلافها، فأبرز ما انطوت عليه من وجوه النقص والخلل والتناقض. من ذلك، أخيراً، دراسة ميدانية لصور الحرب وكيفيات ظهورها في كلام عيّنة من اللبنانيين موزّعة إلى «مجموعات تركيز»، وهي أُجْريت في بيروت الكبرى ولا تزال في قيد النشر…
تعاون المركز في وضع هذه التقارير مع ذوي خبرة ينتمون إلى مؤسسات قائمة في لبنان وبعضهم من غير اللبنانيين. ولا يقع القارئ، في هذه التقارير على ما يصحّ اعتباره جديداً فعلاً على مستوى المعرفة. فقد كانت الحروب اللبنانية، على مرّ السنين، مثاراً لاهتمام دارسين كثر. ولم يعوز مراحلها ومحطّاتها المختلفة موثّقون انصبّوا على حصر وقائعها ولو ان قيمة ما قدّموه تجوز المجادلة فيها بطبيعة الحال. وهذا جواز يسري بلا ريب على تقارير المركز الدولي للعدالة الانتقالية لجهتي الدقة والشمول. ولكن هذه التقارير تتميّز بكونها موجّهة، من حيث المبدأ، لخدمة عملية أو إجراءات متعلّقة بالعدالة. وهي، حين تنتقد، لا بدّ من أن يعتمد مقياساً للنقد صلاحها أو عدمه لهذا الاستعمال أو للتمهيد له في الأقل.
ههنا تطرح الأسئلة الكبيرة: علامَ وقَع المركز في لبنان وما الحظوظ المرجّحة في هذه البلاد للعدالة الانتقالية، بالمعنى الذي اكتسبته هذه الأخيرة من مراسها العالمي؟ أفلا يفتَرض إجراءُ العدالة إفضاءً إلى تصوّر يُعتمد لطبيعة النزاع؟ وهل يستقيم، من غير هذا التصوّر، تحديد مقبول لضفّة المتّهمين أو المجرمين ولضفّة الضحايا ومن ثمّ لضفّةٍ ثالثةٍ هي ضفّة السلطة التي يستظلّها القضاء المعهود إليه بإجراء العدالة؟ وهل تجرى عدالة انتقالية من غير انتقال معلوم الأوصاف حصل أو هو يحصل بعد الخروج من النزاع؟
إلى هذا الأسئلة نعود في عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون