سد النهضة والقانون الدولي

عبد الحميد صيام
حجم الخط
2

نيويورك-“القدس العربي”:نهر النيل العظيم، أطول أنهار الدنيا قاطبة (6670 كم) تتقاسم مياهه ومجاريه وفروعه إحدى عشرة دولة أهمها إثيوبيا والسودان ومصر. على ضفافه نشأت الحضارات واستقرت الشعوب وتطورت الزراعة والبناء والعلوم والأديان. تأتي مصادره المائية من فرعين، النيل الأبيض في أواسط أفريقيا والنيل الأزرق من إثيوبيا حيث ترفده بنحو 86 في المئة من موارده المائية، لكن السودان يستهلك 18.5 مليون متر مكعب وتستهلك مصر 55.5 مليون متر مكعب من مجموع ما يعادل 84 مليون متر مكعب من المياه المتدفقة في النهر. وقد بررت إثيوبيا إقامة هذا السد الضخم بـ”الاستغلال العادل لمياه النيل واحتياجات التنمية الإثيوبية”.

يبدو أن إثيوبيا أدركت منذ زمن هذا الوضع المختل لصالح مصر والسودان وقررت أن تتنصل من العديد من الاتفاقيات السابقة كان أولها عام 1902 وآخرها عام 2015. بدأت إثيوبيا عام 2011 مشروع بناء سد ضخم أطلقت عليه إسم سد النهضة العظيم أو سد الألفية العظيم في منطقة لا تبعد عن الحدود السودانية أكثر من 40 كيلومترا بطول 1800 متر وعمق 155 مترا وسعة تصل إلى 10.4 مليون متر مكعب من الماء ستصل فيما بعد إلى 15 مليون متر مكعب لتجعله أكبر سد في أفريقيا وسابع أكبر سد في العالم. خلف السد تتشكل بحيرة لتمرير المياه إلى السد تقدر سعتها المائية بـ 63 مليار متر مكعب مساحتها 1680 كم مربعا بينما تبلغ مساحة بحيرة ناصر 169 كم مربعا.

بدأت إثيوبيا عملية بناء سد النهضة الكبير على النيل الأزرق عام 2011 بدون التشاور أو حتى الاتصال بالجارين السودان ومصر. وسيتم إنجاز الجزء الأساسي من السد عام 2020 ليبدأ ملء السد بالمياه ابتداء من تموز/يوليو المقبل وتريد إثيوبيا أن تملأه في ثلاث سنوات بينما تصر مصر على سبع سنوات لتأخذ فرصة للتكيف والتعامل مع الآثار. لم تقبل إثيوبيا أي وساطة بل تغيبت عن الاجتماع الثلاثي الذي رتبته الإدارة الأمريكية بالتعاون مع البنك الدولي للتفاوض بين الأطراف الثلاثة في شباط/فبراير الماضي فذهب الوفدان السوداني والمصري فقط وانفض الاجتماع. رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد علي قال إن قرار إثيوبيا الذي لا يخضع للتراجع هو البدء بملء خزانات السد في الوقت المحدد. وزير الخارجية الإثيوبي، غيدو أندرغاشيو، أكد أن بلاده ستبدأ في التعبئة الأولية لخزان سد النهضة في الوقت المحدد ولن تتمكن أي قوة من منع إكمال بناء السد. وصرح وزير إثيوبي آخر “إذا عطش المصريون فليذهبوا إلى ثلاجة السيسي ليشربوا”. هذا الموقف المتغطرس من إثيوبيا مدعوم إسرائيليا وأمريكيا وأفريقيا في ظل ضعف وتشتت الأمة العربية. وللعلم فإن أكثر من 20 شركة إسرائيلية تعمل في العديد من مجالات بناء السد.

حل النزاعات المائية

مع زيادة مشاريع التنمية والنقص الحاد على مستوى العالم في الموارد المائية بدأت الدول تتنافس على استحواذ أكبر كمية من المياه الجارية في أراضيها حتى لو ألحقت ضررا بالآخرين. ففي العالم هناك 214 نهرا تجري مياهها في دولتين أو أكثر وهناك 50 دولة على الأقل تعتمد 75 في المئة من أراضيها وسكان هذه الأراضي على مياه الأنهار الجارية القادمة من بلد آخر أو المتجهة إلى بلد أو أكثر. وتقدر لجنة القانون الدولي أن 35 في المئة من سكان العالم مرتبطون بمجاري الأنهار. لذلك بدأت الجمعية العامة تبحث مسألة التوصل إلى اتفاقية دولية حول مجاري المياه العابرة للدول لأسباب غير ملاحية منذ بداية التسعينيات.

وقد أنجزت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية المسماة “اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية” وأقرتها الجمعية العامة في 8 تموز/يوليو 1997 وفتحت أمام الدول للتصديق عليها إلى أن دخلت حيز الإلزام عام 2014.  وللعلم فلا مصر ولا السودان ولا إثيوبيا ولا بقية الدول المتشاطئة في حوض النيل انضمت للاتفاقية.

كما انشئت “الشبكة الدولية لمنظمات الأحواض النهرية” عام 1994 ومقرها باريس ويبلغ عدد أعضائها نحو 134 دولة وذلك للمساهمة في فض النزاعات بين الدول المتشاركة في أحواض الأنهار.

يقوم مبدأ حل النزاعات بين الدول المتشاركة في مياه الأنهار على مبدأ أساسي وهو “العدالة في التوزيع”. وهذا يعني أن على الدول المشتركة في مجاري الأنهار أن تلتزم ثنائيا أو جماعيا بتوزيع عادل للمياه بين جميع دول المنبع والممر والمصب للأنهار والالتزم بالقانون الدولي للمياه كما تنص عليه الاتفاقية.

وبما أن الدول المعنية ليست أعضاء في اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية لعام 1997 إذن فلنراجع الاتفاقيات الأخرى الموقعة بين دول المنطقة أثناء فترة الاستعمار وما بعدها لنرى إذا ما التزمت تلك الاتفاقيات مبدأ العدالة في التوزيع.

اتفاقية الحقبة الاستعمارية عام 1902

تم التوقيع على اتفاقية 1902 من قبل الإمبراطور الإثيوبي مينليك ومبعوث المملكة المتحدة المقدم جون لين هارينغتون في أديس أبابا في 15 أيار/مايو 1902. كانت مصر والسودان تحت الحكم البريطاني. الاتفاقية مكونة من خمسة بنود فقط. يتحدث البندان الأول والثاني عن الحدود بين إثيوبيا والسودان، أما البند الثالث فهو المهم وينص على:

“يلتزم جلالة الإمبراطور مينليك الثاني، ملك ملوك إثيوبيا، مع حكومة جلالة الملك البريطاني بعدم بناء أو السماح ببناء أي عمل عبر النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو سوبات التي من شأنها إيقاف تدفق مياهها في النيل إلا بالاتفاق مع حكومة بريطانيا وحكومة السودان”.

ومن الواضح أن هذه الاتفاقية التي تعلي من شأنها مصر وتضع نصها على موقع وزارة الخارجية، تعتبر غير ملزمة من وجهة نظر إثيوبيا لأن التوقيع لم يكن مع حكومتي مصر والسودان الشرعيتين في فترة الاستقلال من جهة كما أنها لا تلبي مبدأ “العدالة في التوزيع” لذلك لا تعطي الحكومة الإثيوبية هذا الاتفاق أي قيمة.

 

اتفاقية تقاسم مياه النيل عام 1929

وهي اتفاقية عقدتها بريطانيا بصفتها الدولة الاستعمارية مع مصر نيابة عن دول حوض النيل عام 1929 وأقرت بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل والتي تقدر بـ 48 مليون متر مكعب وأعطت مصر حق النقض (الفيتو) على أي دولة تريد أن تنشئ مشروعا جديدا على النهر وروافده.

 

اتفاقية تقاسم المياه عام 1959

كما تم توقيع اتفاقية تقاسم مياه نهر النيل بين مصر والسودان عام 1959 عشية إنشاء السد العالي. تضمن الاتفاقية بقاء حصة مصر المكتسبة من المياه ويضاف إليها 7.5 مليون متر مكعب ليصبح الإجمالي 55.5 مليون متر مكعب والسودان تصل حصته إلى 18.5 مليون متر مكعب، على أن يوافق السودان على بناء السد العالي. وتقوم الدولتان بمجموعة مشاريع لاستغلال المياه المهدورة من روافد النهر. ومن الملاحظ أن إثيوبيا غائبة تماما في هاتين الاتفاقيتين.

اتفاقية إطار التعاون بين مصر وإثيوبيا لعالم 1993

وقعت الاتفاقية الإطارية في الأول من تموز/يوليو 1993 بين الرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس الانتقالي لإثيوبيا، ميلس زيناوي. وتضم ثمانية بنود، وهي تبدو إطارا للتعاون الإيجابي بين صديقين. وتتحدث البنود الثلاثة عن التعاون بشكل عام والبنود الخمسة التالية عن موضوع مياه النيل. ومعظم الفقرات تتحدث بشكل عام عن التعاون في استخدام مياه النيل عبر محادثات بين الخبراء وعدم القيام بأي نشاط يتعلق بمياه النيل ما قد يضر بالطرف الآخر، والاقتصاد في استخدام المياه وحمايتها والعمل معا في مشاريع تزيد من منسوب ضخ المياه وحمياتها من الهدر، وإنشاء آلية مشتركة للتشاور، والعمل لإيجاد اتفاقية إطارية للتعاون مع بقية دول حوض النيل.

ومن الملاحظ أن هذه الاتفاقية إطار للتعاون كما سميت ولا تحمل أي تفصيل أو بنود تقنية ولذلك لا يستطيع طرف من الأطراف الموقعة أن يستخدمها لتثبيت أمر واقع ليس قائما على مبدأ “العدالة في التوزيع” الذي يعتبر الأساس في القانون الدولي المتعلق بتقسيم مياه الأنهار.

 

مبادرة حوض النيل 1999

وهي مبادرة وقعتها الدول العشر المشتركة في مجاري النيل وفروعه (قبل وجود دولة جنوب السودان) في تنزانيا لتطوير التعاون والتشاور والاستغلال الرشيد لمياه النيل. لكنها ليست اتفاقية ملزمة بل عبارة عن مبادرة حسن نوايا.

 

اتفاقية إعلان مبادئ وثيقة سد النهضة 23 مارس 2015

تعتبر هذه الاتفاقية أكثر الوثائق قربا للمعاهدات الملزمة، كونها وقعت بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا، وكونها مخصصة أساسا لقضية سد النهضة. وقد وقعها قادة الدول الثلاث: الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مصر، والرئيس عمر البشير عن السودان، ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلاماريام ديسالين. وتتكون الاتفاقية من عشرة بنود تتعهد الدول الثلاث بالالتزام بها.
تؤكد الاتفاقية على مبادئ التفاهم المشتركة، والمنفعة المتبادلة، وحسن النوايا، والمكاسب للجميع، ومبادئ القانون الدولى، والتعاون فى تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب. والاتفاقية تشير في بندها الثاني المهم على أن “الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، المساهمة في التنمية الاقتصادية، والترويج للتعاون عبر الحدود والتكامل الإقليمي من خلال توليد طاقة نظيفة ومستدامة يعتمد عليها”. كما تتعهد الدول الثلاث باتخاذ كافة الإجراءات بتجنب التسبب في الضرر خلال استخدام النيل الأزرق. وإن وقع الضرر (أي أنه كان هناك توقع بحدوث ضرر) فالدولة المتسببة في الضرر، في غياب اتفاق حول هذا الفعل، تتفق بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع الضرر ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسبا.

ولا أفهم كيف قبل الرئيسان المصري والسوداني هذا البند الذي يدل على سذاجة؟  فالضرر متوقع إذن والمطلوب التخفيف أو التعويض، فكيف سيتم تحديد الضرر وكيف يتم التعويض إذا ضرب الجفاف مصر وجفت الأراضي الزراعية وانخفض منسوب المياه؟

أما البند (4) فينص على: “سوف تستخدم الدول الثلاث مواردها المائية المشتركة في أقاليمها بأسلوب منصف ومناسب.  وهناك بنود تتعلق ببيع الطاقة للدول الثلاث وبنود تتعلق بالسلامة.

من الواضح أن هذه الاتفاقية تختلف عن سوابقها. فهي اتفاقية وليست إطارا للتعاون وموقعة من قيادات الدول الثلاث وفيها اعتراف بحق إثيوبيا في بناء السد. الغامض فيها موضوع الضرر والتعويض إضافة إلى قبول توصيات الخبراء المستقلين وقد تراجعت إثيوبيا عن هذا البند.

سيناريوهات حل الأزمة

 

من الواضح أن الأزمة الآن دخلت منعطفا خطيرا بعد أن أدارت إثيوبيا ظهرها لكل مبادرات التفاوض والعودة إلى اتفاقية 2015 الملزمة أو القبول بتحكيم من لجنة الخبراء. ومن المؤكد أن مصر ستخسر ما بين 5 إلى 15 مليار متر مكعب من حصتها المكتسبة التي استقرت منذ بناء السد العالي على 55 مليون متر مكعب.

وقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنه لن يتم تشغيل سد النهضة بفرض الأمر الواقع، لأن مصر ليس لها مصدر آخر للمياه سوى نهر النيل، مشيرا إلى أن 95 في المئة من مساحة مصر صحراء، وأي إضرار بالمياه سيكون لها تأثير مدمر على المصريين مؤكدا “نحن مسؤولون عن أمن مواطنينا”. وهذه أقرب لصرخة حرب.

لكن مصر ليست مستعدة للحرب في ظل أزماتها العديدة والمواجهة غير واردة الآن. دور الجامعة الدول العربية غائب حيث اكتفت بإصدار بيان هزيل لا يساوي الورق الذي كتب عليه لأن الجامعة العربية لم تعد لا جامعة ولا عربية، بل مكتبا هزيلا ملحقا بوزارة الخارجية المصرية.

الاتحاد الأفريقي ما زال يأخذ موقفا محايدا بين دولتين من الأعضاء المؤسسين للاتحاد. وفي غالب الأمر سيتحرك الاتحاد في لحظة ما إذا شعر أن هناك ترحيبا بوساطة أفريقية.

التدخل الدولي

أعلنت مصر، الجمعة 20 حزيران/يونيو، أنها تقدمت بطلب رسمي إلى مجلس الأمن الدولي للنظر في مسألة سد النهضة الإثيوبي. وقالت الخارجية المصرية، إنها دعت مجلس الأمن إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان التفاوض بحسن نية، تنفيذاً لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي من أجل التوصل إلى حل عادل ومتوازن لقضية سد النهضة الإثيوبي، وعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية قد يكون من شأنها التأثير على فرص التوصل إلى اتفاق. ولجأت مصر إلى مجلس الأمن بناء على البند 35 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز للدول الأعضاء أن تنبه المجلس إلى أي أزمة من شأنها أن تهدد الأمن والسلم الدوليين.

قد يكون مجلس الأمن الملاذ الأخير فقد يدعو إلى وساطة يقوم بها الأمين العام أو مبعوث خاص له على الأقل لتبريد الأزمة والعودة للمفاوضات بناء على اتفاقية 2015 والتي في جوهرها تقر ببناء السد على ألا يلحق ضررا بدول المصب وخاصة مصر. ونعتقد أن لجوء مصر إلى مجلس الأمن هي الورقة الأخيرة للعمل ضمن قواعد القانون الدولي بعيدا عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mahmoud jamhour:

    مقال رائع وشامل لكل جوانب الأزمة، وواضح انه رغم أهمية السد والمياه المخزنة فيه للدولة التي يقام عليها السد ،إلا أنه من الضروري تقدير الشركاء في حصتهم من المياه، ويتضح ان هناك أطرافا تدعم إثيوبيا في خطتها للاضرار بالاقتصاد المصري بالذات لانه اكبر المتضررين منه ،لكن تساهل القيادة المصرية منذ البداية هو الذي سمح إثيوبيا الاستمرار في بناء السد ،والتفريط المصري كان سببا مباشرا وما صرخات الاستغاثة الان الا خيال .

  2. يقول د.أحمد / برلين:

    ومنذ نشر الخبر – 20 يونيو حزيران لم يعقبه أي تفسير مفصل أو حتى موجز لكن يحمل أي جديد مطلقا! لكن الخبر شمل كل التفرعات بخبرة ملموسة ومحدودة وملهمة! أحسنت، عزيزي عبد الحميد صيام!

إشترك في قائمتنا البريدية