لم يخطر ببال أحد من الثوار الشباب في سوريا، عندما اندفعوا إلى المواجهة مع النظام الاستبدادي المقيم في بلادهم، ومنذ أكثر من أربعين عاماً، إن شعلة غضب في قرية من جنوبي دمشق سوف تكشف أن سوريا كلها هي أرض البراكين النائمة، كأنها عاشت حياتها بانتظار من يُوقظ جحيمها في صدْفة تاريخية، وإنْ كانت في أصلها حادثة شبه عادية.. مهما يقال نظرياً أن الثورات الحاسمة يسبقها إعداد منظّم، حتى عندما تظهر بوادرها الأولى بطريقة فُجائية، وتنتقل سريعاً إلى ساحاتها بسرعة تسابق أحياناً الضالعين في إحداثها أنفسهم، فإنها لا تلبث أن يلوح لها بعض الانتظام في جريانها، الأمر الذي يخوّل بعض المراقبين الحاليين أن يفترضوا تخطيطاً ماوراءها. فاتهام الثورات بأنها صنائع لغير أسمائها المعروفة أمر تواجهه حتى أرقى ثورات العصر الرأسمالي الحالي. ذلك أن الإقرار بأصول وأسباب تخص الثورة من داخل بنيانها، قد يتجنبه أعداؤها، ما أمكنهم من اتباع أساليب الاتهامات السوقية بالجهات أو المخططات الأجنبية أو الإقليمية.
بالفعل، فإن الثورة السورية وقعت منذ أن بانت ملامحها الجذرية، أسيرةً سريعة وحتى سهلة. بين أحابيل القوى الخارجية المضادة لكل تغيير عربي مستقل. فهذه القوى دأبت على فرض رقابتها السياسية والفكرية الدائمة على تطوراتِ المرحلة الإستقلالية بعد أن اضطرت أن تجلو بجيوش احتلالها عن كامل الجغرافية العربية. فالبديل عن السيادة الغربية المباشرة، بالحديد والنار على ما كان يسمّى بمستعمرات الشرق العربي، كان في اختراع وتنويع طرق الهيمنة الشفافة، والتدخلات غير المباشرة، وتوظيف العملاء والأصدقاء في خدمة مشاريع تلك الهيمنة، وصولاً إلى قرارات الحروب المادية المعلنة على رؤوس الدول، وهي في أصلها كانت حروب الحضارة الغربية ضد منطلقات حضارية عربية جديدة، صاعدة.
ما حدث للثورات الربيعية هو أنها كسرت لأول مرة شيئاً من سلطات قانون هذه الرقابة المطلقة على إرادة شعوب المنطقة، لا يعني هذا التحوّل أن الأمة باتت حرة في قرار التمرد على المظالم الكلية المسيطرة من عصور على الحياة العامة في بلادها. لكن هو «الواقع الفاسد» نفسه الذي يكبّل الأمة ربما أمسى موشكاً على تفكك بعض مفاصله المتيبسة، إذا كان أُتيح لبعض ثورات الربيع أن تنطلق من تلقاء ذاتها _ وهذا باعتراف الغرب أحياناً _ لكن مصائرها القادمة بعد انطلاقها ستتعرض لمختلف دواخل التحريف الذاتي كما الخارجي. ونحن الآن نعيش هذه المرحلة الثانية مابعد المرحلة الأولى من فُجائيات الثورات في أقطار متعددة، إنها الحقبة المعرضة خاصة لأخبث معارك الاستيعاب. فالتعقيد الدموي الهائل الذي تتساقط فيه جماهير الحراك الثوري ناجم أساساً عن كون كل من نوعي التآمر المنظم والآخر العبثي يتخاطفان دفة التوجيه في هذه المراكب الثورية المتحدية لبحار العواصف من حولها. فالثورة لن تُترك لذاتها. وهذا شعار عملي، وتمارسه كل القوى المضادة للتغيير العام. لن تخسر الثورة رونق أهدافها الوطنية، لن يغيب وجهها الشاب الصبوح وراء الأقنعة السوداء، لن يتلفّظ بعض ألسنتها بالتعاويذ والحشرجات القروسطية، لن ترتكب جرائم السفاحين الكبار بأيدي البعض من هؤلاء المنحرفين المتسابقين في التيارات الجرمية الكبرى. كل هذا التشويه غير العفوي يهدف إلى تعرية الثورة من هيبتها المعنوية لدى جماهيرها الخاضعة لهذه الممارسات الفوضوية التي كانت الثورة تستهدفها لدى أجهزة القمع السلطوية، تكاد تنسحب ملامحها إلى وجوه المناضلين ضدها. وفي هذا المنعطف الشائن سوف تضيع الفروقات الحدية بين أهل الفكر الوطني وأركان القتلة وأدواتهم التشبيحية. ضياع الفواصل الحاسمة هذه في الميادين الحركية بين الأضداد، يصب فوائده الكارثية في الجانب السلطوي. فماذا يتبقى للثوار من مزايا إن افتقدت جماهيرهم حس الاختلاف الجذري عن رجال النظام، بين دعاة السلام والمساواة والمحبة، وبين عملاء العنف والفساد والقمع الوحشي.
السنوات الأربع من تاريخ هذا التحول الشمولي تحت اسم الربيع العربي أحدثت صدمات مروعة للأخلاق الاجتماعية السائدة، ربما لم تأت على أمثالها أية نكبات عظمى ألمّت بشعوب هذه الأمة البائسة طيلة قرون سحيقة. وهذه الصدمات لا يمكن ردها كأسباب وظروف إلى فريق معين من بين قبائل الصراع، دون التنبه دائماً إلى مؤثرات الأفرقاء الآخرين، سواء كانوا ظاهريين في المشهد أم متوارين في هوامشه. وهنا يكمن التفسير المتواتر حول سر الأحكام الجماعية المتسرعة دائماً في ادانة الكل بجريمة البعض كالقول الذي تردده أوساط غربية حاملة لعناوين علمية، في إدانة مجتمعات الثورات _ أو المقتلات بأنها مرتدة إلى طبيعتها الوحشية الأولية. هناك في دوائر هذه الأوساط من يعزو مختلف (الشرور) إلى أمثال هذه البيئات الإبتدائية المتخيلة، حتى كأنما فقد الجمهور العربي تعاطفه الآني مع انطلاقات الشباب العربي الغاضب، ما أن تحولت الوقائع البطولية الأولى للغضب الشعبي إلى أفخاخ رهيبة لابتعاث أبشع الميول التدميرية للبشرية الهمجية، وأكثر من هذا فقد اختلطت الأمور أخيراً عند أرقى المراقبين العلميين نزاهة في معظم مراكز الأبحاث والإعلام الدولي، مما زاد في صعوبة التمييز بين هذه النخب، هل هي باحثة حقاً عن أسباب هذا العصر الكارثي الدموي أم أن بعضها لا يزال طامحاً في تعميم ظواهره الرهيبة على مستقبل الإنسانية المغدورة كلها.
فالأخطار الأدهى التي علينا أن نتوقعها مع مشاهد المنافسة الحيوانية بين مجانين العقائد الدينية المنحرفة، صار لها الوزن الأكبر بالنسبة إلى حجوم الشرور التقليدية التي فجرت أخيراً عصر التمرد الشبابي ضدها. أيهما هو الأفعل في مدى السيطرة اليومية المباشرة في ميادين الممارسات القتالية، هل هو حب الحرية والعدالة حقاً، أم كراهيتهما القاتلة. ومن هم أعضاء المعسكر الرافع لألوية الحقيقة في بحران الشعارات المتحالفة مع ألفاظها القدسية، من غير جدارة أو فهم صحيح لمعانيها ومقاصدها الدنيوية قبل الدينية. فلا شك أن من اصْطَلح عليهم بأوصاف الأوساط الحاضنة، وهي مجاميع عربية وإسلامية كانت بدون حدود تقريباً، تلك التي شكلت للثورات رصيدها المعنوي الذي استقت منه قوتها وصمودها،هذه الأوساط لم تعد على الأقل واثقة بأبوتها الطبيعية لحقائق الثورة، لم تعد ترى في تضحيات الحاضر ما يفترض حتمية ما سوف تحقق دولة العدالة العربية المنشودة يوماً ما. ذلك أن أسوأ ما يضر بالثورة هو استنقاعها في التربة المضادة لها.. عندئذٍ لن تكون دائماً في منجاة عن عوامل التخريبيين الذاتي والخارجي في آن معاً.
ليس في الحال الراهنة ما يوحي بانغلاق الميادين التي تعجّ بنماذج الأوبئة تحت تسميات الجهاديات وأضرابها. فلن تسمح لبذور الخير الوليدة المبعثرة أن تنمو نموها المأمول، وهي جاثمة جميعها على صدورها، لتمر فوقها جحافل سُرّاق الأهداف الإنسانية محتفلةً بتأجيل عصر الإنسان، والعربي منه تحديداً.. إلى ما بعد أزمان الحضارات الماضية.. « والآتية بعدها.. لم لا!
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي