تونس: هل تتكامل استقالة اليسار مع تنمّر اليمين؟

حجم الخط
10

كأنّ تجربة الانتقال الديمقراطي الوليدة في تونس هي اليوم قليلة الأزمات أو محدودة المآزق، حتى يضيف إليها الرئيس التونسي قيس سعيّد جرعة إضافية من التجاذب، الشعبي والشعبوي في آن معاً؛ على خلفية تصريحاته الإشكالية خلال زيارته إلى العاصمة الفرنسية باريس مؤخراً. كان البرلمان يصطخب بصراعات مألوفة وأخرى طارئة، بين الأحزاب وأجنداتها والأفراد ومصالحهم؛ وكانت تطاوين تحتضن احتجاجات شعبية عارمة، سارعت حكومة إلياس الفخفاخ إلى مجابهة مطالبها عبر الحلول الأمنية؛ فاستكمل سعيّد مشهد الغليان بعجائب الأقوال، حول تنزيه فرنسا عن احتلال تونس (فالاستعمار ذاك، رغم جرائمه التي أقرّ بها سعيّد، كان “حماية” فقط!)؛ ونُصْح الليبيين باعتماد مخرج الـ”ليا جرجا” الأفغاني!

وبمعزل عن أداء سعيّد المثير للجدل، بدا جلياً أنّ المكوّنات الحزبية الكبرى داخل مجلس الشعب التونسي لا تحتاج إلى ذريعة من أيّ نوع كي تنخرط في معارك تصفيات الحساب؛ المقبل منها الذي يخصّ مستقبل حكومة الفخفاخ وآفاق أي استحقاقات دستورية أخرى، أو المتأخر الذي يستعيد نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية وحصيلة ما يُسمّى “توسيع الحزام الحاكم” واستبعاد أو ضمّ هذا الحزب أو ذاك.

وكما بات مألوفاً في العقود الأخيرة، لا يستفيد فريق من حال التأزّم هذه أكثر من استفادة مجموعات اليمين المتطرف، متمثلة اليوم بصفة أساسية في “الحزب الدستوري الحرّ” الذي يحنّ إلى نظام بن علي، تحت قناع كاذب من إحياء البورقيبية؛ و”ائتلاف الكرامة” السلفي، الذي يناهض معظم الحقوق المدنية وكلّ ما هو تقدمي وعصري تقريباً. في المقابل، يتأكد يوماً بعد آخر أنّ استقالة اليسار التونسي العملية، إثر هزيمته النكراء في الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ إنما تتكامل، رغم المفارقة المأساوية، مع صعود اليمين المتطرف، وتنمُّر برامجه وخطاباته إلى درجة إطلاق صفة “ربيع الخراب” على انتفاضة الشعب التونسي سنة 2011.

وهذا برلمان يغرق في استقطابات طاحنة لا يفلح طنينها الصاخب في إخفاء خوائها التامّ من أيّ بند يخدم مشكلات الشعب المعيشية، ونقص الأغذية، ومديونية الدولة، واقتصاد البلد شبه القعيد، والبطالة، وتعثر التنمية، وانحطاط البنى التحتية، وتدهور قطاعات الصحة والتعليم والسياحة… وحتى حين تجنح بعض كتل المجلس إلى مساءلة رئيس الحكومة حول احتمالات الفساد الشخصي وتضارب المصالح، فإنّ المحتوى الحقيقي لتلك المحاولات إنما ينهض على تصفيات الحساب تارة، أو الشماتة بالخصم السياسي تارة أخرى؛ هذا بمعزل عن حقيقة أنّ مسائلي الفخفاخ يمكن ألا يقلّوا عنه في احتمالات الفساد، بل إنّ بعضهم على شاكلة نبيل القروي زعيم “قلب تونس” سبق أن سُجن على ذمّة ملفات فساد.

كذلك، وكما بات مألوفاً هنا أيضاً، ينخرط اليمين المتطرف في طراز من المعارك الشعبوية التي تتوسل تهييج الشارع حول مناوشات ثانوية (مثل قيام بعض النهضويين من أعضاء البرلمان بإحياء ذكرى الرئيس المصري الراحل محمد مرسي تحت قبة البرلمان)؛ والامتناع، في المقابل، عن الانخراط في حملة مساءلة رئيس الحكومة بصدد أسهمه في شركة بيئة متعاقدة مع الدولة، بداعي عدم السير في ركاب “التكفيريين”. اليسار من جانبه، ممثلاً في شخصيته التاريخية الأبرز حمّة الهمامي الأمين العام لحزب العمال، يمكن أن يدخل في معركة تضامن مع فتاة قلّدت القرآن في نصّ ساخر أسمته “سورة كوفيد” (اختتمتها بعبارة “صدق جيلو العظيم”)؛ فيتلقى الهمامي “الامتعاض” و”الاستنكار” حتى من أشخاص “يعلنون انتماءهم إلى الفضاء اليساري والتقدّمي”، كما أشار بنفسه.

ولعلّ البعض من مراقبي هذه الحال التونسية يفضّل استعادة المفارقة الصارخة بين اتهام الرئيس التونسي بأنه أقرب إلى “حركة النهضة”، التي ساندته خلال الانتخابات الرئاسية؛ وبين المساجلات اللفظية الراهنة التي تضع سعيّد على طرف موازٍ، إنْ لم يكن النقيض، لمواقف الحركة الراهنة إزاء قضايا محلية وإقليمية.

وفي الغضون، يواصل اليسار استقالته الفعلية، ويمعن اليمين المتطرف في التنمّر أكثر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول المراقب:

    مع إحترامنا لقيس سعيد إلا أنه في إعتقادي لقد فشل في أول مهمة ديبلوماسية له خارج البلاد وهذا يثبت ان الرئاسة أكثر من كونها شعبية داخلية ونقاء سريرة بل أيضا تحتاج إلى الحنكة والديبلوماسية وأن تقول ما تريده بالطريقة التي يفهمها الآخرون بدون الحياد عن الثوابت. لقد أسمع الماكرون صوته إلى قيس سعيد ومع إختلاف الرؤى لم يكن موقف سعيد قوياً بل بدا باهتاً ومبهماً كأنه لم يأت إلى فرنسا إلا لإستجداء المال وقد ألقت باريس القليل منه له!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ما هو مخرج الـ”ليا جرجا” الأفغاني!، الذي تكلّم عنه الرئيس التونسي، تكملة أو إضافة على زوايا الرؤية الرائعة التي أثارها (صبحي حديدي) فيما نشره تحت عنوان (تونس: هل تتكامل استقالة اليسار مع تنمّر اليمين؟) في العدد الأسبوعي لجريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا؟!

    المنطقة بين أفغانستان والعراق تم ربطها مع بعض منذ الغزو الروسي والحرب العراقية الإيرانية في نهاية السبعينات من القرن الماضي، زاد الطين بلّة ما حصل يوم 11/9/2001، في أمريكا،

    في سوق أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)، لكل إنسان ثمن، هكذا تفهم وتتعامل (فرنسا) أو غيرها، مع أي سياسي، تحت أي ظرف زماني أو مكاني، يتم دعوته، إلى دولهم كما حصل مع الرئيس التونسي،

    وهو أول تعليق لي، على ما ورد تحت عنوان (المرزوقي: التشكيك في شرعية حكومة الوفاق “تآمر” على وحدة التراب الليبي)،

    السؤال الآن ما هو الثمن، الذي قبضه رئيس تونس لتونس، كرب الأسرة التونسية، وهي تمر بأزمة إقتصادية؟!

    عندما استخدم عبارة توحي إلى التشكيك في شرعية حكومة الوفاق كأب أو أسرة في ليبيا، وهل ثمن السلاح الروسي دفعته (فرنسا) الآن؟!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    لأن على أرض الواقع، من دفع رواتب (شركة فاغنر الروسية) و (بلاكووتر الأمريكية)،

    هو نفسه من دفع تكاليف شراء، ما ورد تحت عنوان (ليبيا.. رصد 11 طائرة روسية تقل ذخائر ومرتزقة في سرت) والسؤال الأهم، كيف وأين تمّ توقيع عقد الصفقة،

    ومن خلال أي مصرف، تم الدفع، في زمن الشفافية واللا مركزية، وما هو المتوقع من أرباح لهذه الصفقة، ولماذا؟!

    التوجيه بلا منطق ولا موضوعية أو أخلاق، عندما يكون وظيفة أو وسيلة للدخل (المال السياسي)،

    فتكون النتيجة عنوان (موقع: شركة ضغط أمريكية تفسخ عقدا بقيمة مليوني دولار مع حفتر) والأهم تأثير فشل التعامل مع كورونا عام 2020 على ذلك، ولماذا؟!

    سلاح الدولة، سلاح الشركة، سلاح الأسرة، سلاح الإنسان، عندما يكون وسيلة دخل (الإيجار)، في سوق أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)، بسبب الحرب على الإرهاب،

    سيكون هو أساس ضياع مفهوم القانون، والنظام، وسبب الفوضى،

    وضياع الحقوق للجميع، الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية وبالتالي الدولة،

    فتصبح الرشوة والإتاوة والمحسوبية والشفاعة، هي أساس الحصول على أي شيء من صاحب أي سلطة/سلاح،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    والتي أدت إلى ظهور (داعش)، على أرض الواقع، كنوع من مقاومة الظلم، ضد الفساد والغش، وعدم وجود الخدمات، بداية من الخدمات الصحية (كورونا كمثال في عام 2020)،

    وضياع الحق والحقوق على أرض الواقع، حتى في ليبيا، وليس فقط عند أهل ما بين دجلة والنيل بعد 9/4/2003،

    فكيف (اللويا چرگا) الأفغانية، هي الحل على رأي رئيس تونس،

    وما علاقة ذلك بإتفاق الدوحة في عام 2020، وهي (قطر) تحت الحصار، وتنجح، في حتى موضوع الاكتفاء الذاتي، في ثلاث سنوات الحصار، من زراعة الصحراء، سبحان الله??
    ??????

  5. يقول .Dinars.#TUN.:

    النهضة التي نهشت كل شيء بعد 2011 تعتبر خطا مستقيما لا يمكن أن يتقاطع مع أي من الفرقاء إلا في المسائل الخاصة بعيدا عن مصلحة البلاد التي ليست من اهتمام جل السياسيين.

  6. يقول فرنسا الفتوة:

    هل أعطينا فرنسا من عقولنا ثمنا مقابل ما أعطتنا من عضلاتها؟

  7. يقول رمضان:

    لا يوجد يسار حقيقي في تونس حتى ينحسر ويتقلص…ما أشرت إليه بكونه يسارا (الجبهة الشعبية بمشتقاتها) ليس سوى يسارا متطفلا ما زال يمارس أيديويوجيا بأدوات الحرب الباردة في نسختها الشيوعية الركيكة….أما اليمين المتطرف (الدستوري الحر ) فلا تطرف له إلا إزاء جزء من أبناء شعبه لا إزاء الأجانب كما يفهم في الغرب…

  8. يقول رمضان:

    لا تحتاج تونس إلى أحزاب ثورية قومجية إسلاموية علمانية بقدرما تحتاج إلى رجال ثقات، أكفاء يحسنون إصلاحها ودفعها إلى الأمام

  9. يقول الفلاتر:

    عبدالفتاح استأثر لنفسه بكل فلاتر الكلام و لم يترك حتى و لو فلترا واحدا لبقية زملائه في العالم العربي.

  10. يقول فوزي:

    استغرب كيف لاحدهم يكتب في موضوع لا يعرف ابجدياته
    كيف يكون ائتلاف الكرامة سلفيا متطرفا رافضا للحقوق المدنية، من اين لك بهذا
    ائتلاف الكرامة حزب ثوري، والثورية هي مايجمع المنتمين اليه والانصار، لان فيه من له توجهات اسلامية وفيهم من له توجهات يسارية
    لكن مايقوله الكااتب فيه تحامل تشويهي الارجح ان سببه الخلفية اليسارية المتطرفة للكاتب، لانه لا يعادي ائتلاف الكرامة الا المتطرفون اليساريون القريبون من فرنسا والمعادون للهوية عموما

إشترك في قائمتنا البريدية