احتفلت الجزائر يوم السبت بالذكرى ستين لانطلاق حربها على المستعمر الفرنسي الذي، في 1954، كان قد مرّ على احتلاله للأرض الجزائرية قرن وربع القرن.
مثل العادة طغى الجانب الفلكلوري على الاحتفالات، وأبرزه الإعلام الحكومي إلى حد التخمة، مع جرعة زائدة أملاها الرقم، أي الذكرى ستون. فالأرقام «المقفلة» تغري بنكهة مختلفة لمثل هذه المناسبات.. الثلاثون، الأربعون، الخمسون، الستون.. إلخ.
لكن الفلكلور المفرَط فيه لم يلغِ أسئلة كثيرة عميقة تُطرح باستمرار وتفرض نفسها أكثر مع حلول كل ذكرى تخص اليوم الوطني أو عيد الاستقلال.
يكاد المرء يقول إن طغيان الفلكلور أمر متعمد يحاول أصحابه التغطية على مساحات الاسئلة الحقيقية. أسئلة تتعلق بمكانة التاريخ الجزائري بين الجزائريين وصلة هؤلاء الجزائريين به، وبالذات مع التاريخ الاستعماري وحركة المقاومة وحرب الاستقلال. أي تاريخ المئتي سنة الماضية.
الأجوبة على هذه الأسئلة معروفة، ويتفق حولها العام والخاص في الجزائر: هناك أزمة ثقة عميقة فرضت وضعا غير سويّ كان يجب إصلاحه، لكنه ظل على حاله. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من دفاتر التاريخ وأسراره التي تصنف خطيرة. ولكل أسبابه التي قد تُفهم في سياقات معينة، لكنها يصعب أن تُعذَر.
والنتيجة، بعد ستين عاما من وقوعه، الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عند قطاع واسع من الجزائريين، وبالأخص الشباب، ليس أكثر من يوم راحة، على الرغم من أنهم، في الأعماق، لا يرفضون ذكرى حرب التحرير، بل يفتخرون بها وبيوم تفجيرها، ولا يريدون لبلادهم شراً ولا يمقتون تاريخهم ولا يحبون الاستعمار ولا يحترمونه.
إذاً، المشكلة ليست في صلة الجزائريين مع تاريخهم، بل مع الأيدي والعقول التي «استولت» على هذا التاريخ وفرضت النسخة التي تريد منه. نسخة كتبها وشرعنها أفراد ومجموعات وفقا لحسابات الحاضر، فكان في الغالب تاريخا غير دقيق أو حتى مزوّر في بعض الأحيان.
هو بالذات هذا التاريخ الذي تحفل به الدفاتر المدرسية والمقررات الجامعية وتكرره الندوات والمؤتمرات المخصصة للفترة الاستعمارية منذ أول يوم من أيام استقلال الجزائر.
الحقيقة الصعبة أن بعض فترات الحقبة الاستعمارية للجزائر، من وجهة نظر جزائرية، بلغت درجة من التعقيد والخطورة تجعلها كفيلة بإشعال فتنة اجتماعية ومناطقية وبين الأشخاص، اليوم، بعد خمسين وستين سنة من تاريخ الوقائع.
لأن حرب التحرير الجزائرية مقدّسة، فقد أصبحت مفراً يغرف منه المفلسون اليوم. ولأنها كذلك، يبدو أقرب إلى المستحيل أي نقاش في مضمون تاريخها كما جرى الاتفاق عليه وإدراجه في المقررات المدرسية والجامعية وبات «تاريخا» متعارفا ومتفقا عليه، يُرضي الجميع ويحفظ ما أمكن من الانسجام الاجتماعي والتوافق السياسي والمناطقي في البلاد.
هذا أحد أبرز أسباب بقاء تاريخ حرب الاستقلال، في روايتها الجزائرية، سطحيا وورديا ومثاليا يصيب الباحث الجاد والشغوف بالملل، وينفره.
بوضوح أكثر، يجوز القول إن الذين في أيديهم تدوين تاريخ حرب الاستقلال وتكريسه وشرعنته، منذ 1962، أفراد ومجموعات، اختاروا طريق تجهيل الأجيال على احتمال السير بالمجتمع في طريق الفتنة. وفي الأثناء لم يألوا هؤلاء جهداً في صياغة تاريخ بلون وصبغة المنتصر مرتين، مرة على المستعمِر ومرة على أبناء الجلدة والثوار مثلهم. وفي حربهم الثانية، حرب فرضِ التاريخ وشرعنته، مسحوا من الوجود جهات واسماء اشخاص، ورفعوا جهات واشخاص آخرين إلى درجة الأنبياء، ومنعوا ما دون ذلك.
شبّت أجيال عدّة في هذا الطريق والتاريخ لا تعرف غيره.. لا تعرف النقاش المفيد، لا تستطيع رفض ما يُلقّن لها، وتجهل أسس التشكيك الإيجابي.
واليوم، عندما تأتي أي رواية مختلفة عن القوالب الجاهزة، مهما كان مصدرها مُهمًّا أو غير ذي شأن، يصاب المجتمع بالصدمة فتفتح أبواب الشتائم والقذف والتهديد بالمحاكمات، وتطل الفتنة بأنيابها، فيعاد الغطاء الى مكانه مانعاً أي متنفس.
بين الفتنة والتجهيل هناك طريق ثالث وسط، هو هذه المحاولات التي تحاول ادعاء الرغبة في الخروج عن القوالب الجاهزة.
عشرات الكتب صدرت في العقدين الماضيين بيد جزائريين ممن صنعوا جزءا من تاريخ حرب الاستقلال أو كانوا شهوداً عليه. وألفها جزائريون اختاروا البحث التاريخي على الرغم مما يسببه من تعب وصداع.
غير أن هذا الجهد يصطدم بحالة يجب، من الآن فصاعداً، إيلاؤها الأهمية التي تستحق، وقد نبه لها المؤرخ دحو جربال. هي أن جزءا من هذه المؤلفات والمنشورات لا تتوفر فيه الصفة والشروط العلمية والتاريخية. بمعنى أن أي «شاهد» يستطيع أن يروي ما يعرف في كتاب يطرحه في الأسواق، دون أن يجادله أحد علميا.
الجدل الذي يفرض نفسه لحد الآن تاريخي وشخصي ومناطقي، كما حدث مع شهادات الرئيس الراحل علي كافي حول المجاهد عبان رمضان.
يحتج هؤلاء أو أولئك على شهادة تاريخية لأنها في التفاصيل أضرت بقيادي معين أو منطقة ما، ليس على كونها عملية تأريخ بحاجة لتصويب أو نقد علمي صرف.
ستون عاما على انطلاق حرب التحرير، واثنان وخمسون عاما على خروج المستعمر، لا يزال الجزائريون أسرى تاريخهم: عاجزين عن مواجهته، خائفين من مصارحته، متوجسين من عواقبه. والنتيجة أجيال كاملة «تنعم» في جهل مخيف. وحقائق تاريخية مؤجلة إلى أن تسقط التابوهات وينتهي التقديس المبالغ فيه.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
سلم قلمك يا أستاذ توفيق..
من لم يع التاريخ في صدره
لم يعرف حلو العيش من مر ه
ومن وعى أخبار ما قد مضى
أضاف أعمارا إلى أعماره
لكن ويا للأسف فمدونوا تاريخ الجزائرضخموا عمره بالتحريف والتزوير ليطيلوا أعمارهم في السلطة أو بجانب السلطة
ما أحلاه أسر لأن تاريخ الجزائر ليس فيه ما يعاب