هل يُحدث فيلم “الجنة تحت أقدامي” نشراً للوعي وإنصافاً للأمهات في الحضانة؟
بيروت-“القدس العربي”:وثّق فيلم “الجنة تحت أقدامي” معاناة أربع أمهات لبنانيات في حضانة أطفالهنّ بعد انفصالهنّ عن أزواجهن. معاناة تبدأ من القضاء الشرعي، مروراً بقوى الأمن الداخلي التي يفترض أن تطبق قراراته، وصولاً إلى الأزواج وامكاناتهم في إغراء القضاة أو عبر سلوك البلطجة في خطف الأطفال.
“الجنة تحت أقدامي” حمل في بداياته ومتنه مشاهد رمزية معبّرة. بدأ بمشهد من جبال لبنان ليطرح السؤال عن الجمال والحرية وحق الأم في حضانة أطفالها في بلد يضم 18 طائفة وما يماثلها من قوانين الأحوال الشخصية. ومرّ على قبر “سعاد” خالة إحدى النساء اللواتي شكلن عناصر الفيلم لتشير أن طلاقها استمر في المحاكم 25 سنة ولم يصدر، لكنها حصّلته بالرحيل قهراً.
في لبنان عدّلت بعض المحاكم الروحية المسيحية سن الحضانة لصالح الطفل والأم باستثناء الكاثوليك. وكذلك فعلت المراجع الدينية القضائية لدى المذاهب الإسلامية من سُنّة ودروز، ولا تزال المراجع الدينية الشيعة ترفض التعديل.
عن هذا الفيلم وحيثياته حوار مع منتجته اللبنانية عبير هاشم ومخرجته ساندرا ماضي من فلسطين. نسأل ماضي:
*لماذا جذبك موضوع الأمومة المخنوقة بقوانين الطوائف والمذاهب في لبنان؟
**بالضرورة يجذبني الموضوع كصانعة أفلام وكإمرأة معاً، وهو لا يحتاج لمرافعة لتقدير أهميته. فالإنسان الطبيعي سيرفض أي ظلم يقع على علاقة مقدسة بين أم وطفلها ومهما كانت القوانين المستند إليها، ولست معنية بما دون تلك العلاقة. كصانعة أفلام جذبتني الشخصيات وتورطت معها إيجابياً. فثمة كلمة سر بين صانع أو صانعة الفيلم والموضوع الذي يشتغل عليه، إنه رابط يشبه الحبل السريّ. ودائماً الشخصي حاضر في السينما المسؤولة والمعنية بتقديم رسالة وهدف.
*ناصرت في عملك التوثيقي أمهات من المذهب الشيعي فهل توصلت لتفسير عن تمنع المعنيين من تعديل سن الحضانة؟
**لم أكن بصدد مناصرة المرأة الشيعية، بل أعتبر معاناتها في لبنان نموذجاً لأقصى درجات الظلم الذي قد تتعرض له المرأة. مشكلة قوانين الأحوال الشخصية في لبنان تعمّ كافة الطوائف. المجتمع المدني من محامين وفقهاء ومناصرين يستمرون بالعمل حتى إحداث التغيير المهم والجذري في قوانين الأحوال الشخصية. وتعديل سن الحضانة في باقي المذاهب الإسلامية جاء نتيجة الضغط وعلى مدى سنوات طويلة، ولم يأت كعطاء. وللأسف لا يزال المذهب الكاثوليكي بين الطوائف المسيحية متمسكاً بعمر السنتين كحد أقصى لحضانة الطفل. كافة الـ18 طائفة المعترف بها في لبنان لديها مشاكل في الحضانة والطلاق والنفقة، وتبرز مشكلات المرأة كأساس ومعضلة دائمة.
*هل لمست خلال البحث وجود سلطة مطلقة لقاضي الشرع؟
**طبعاً لقاضي الشرع سلطته المطلقة، وليس للإنسان العادي أن يفسِّر سببها. ولأننا حيال لبنان نعرف دور السياسة الكبير في موضوع كهذا، وبما يعنيه من تحكم مباشر في إدارة شؤون الأسرة من قبل رجال الدين والقضاة. من المؤكد وجود علاقة خفية بين رجال الدين ورجال السياسية من الطائفة نفسها، أقله للتحكم بالناس وتعطيل حياة النساء وأحياناً الرجال. فقد قال الشاعر حافظ ابراهيم “الأم مدرسة إن اعددتها… أعددت شعباً طيب الأعراق”. الشكل الخارجي يعجّ بالشعارات والتطبيق مختلف، ومن هنا أتى عنوان الفيلم “الجنّة تحت أقدامي”. وهو اقتباس من “الجنة تحت أقدام الأمهات” النص المقدس لدى الكثيرين. عنوان يحمل تساؤلاً استنكارياً، فهل هو حال الأم التي نردد أن الجنة تحت أقدامها؟
*هل يمكن السؤال من أين يستمد قاضي الشرع قوته أو سلطته؟
**يستمدها من رجال السياسة ومن المال السياسي. ولست بصدد التعميم إنما سبب الخلل الفظيع وجود عدد كبير من قضاة الشرع يأتمرون بأوامر السياسيين. ولهذا تصلنا قصص كثيرة ذات تعقيدات مروعة لا يقبلها عقل. سلطة قاضي الشرع المطلقة تأتي أولاً من دعم رجال السياسة المحصنين بالمال وبالنفوذ، وثانياً من تواطئ جمعي من المجتمع. وللأسف قد يساهم أهل المرأة بقمعها لاختصار المشاكل أو الفضيحة. وقد يلعب أهل الزوج دور المحرض له ليقهر زوجته. إنها شبكة متصلة تعمل على ظلم وقهر المرأة ومعها الأطفال. وفيها تمتشق المرأة دور العداوة للمرأة وبشكل حاد، والحالات التي بحثت عنها أثبتت ذلك. ففي زاوية ما توجد امرأة تُحرض رجلاً على امرأة سواء كانت زوجته أو طليقته. فلينا وفاطمة تعانيان من دور للنساء في تحريض الرجال عليهن. زينب تعيش عصيان عمة ابنها ومنعها من مشاهدته منذ أكثر من ست سنوات. تلك العمة أصبحت “ماما” وغسلت يديها من أن للطفل أم.
*هل تعتبرين والدة “إياد” بطلة في مواجهة سلطة دينية ظالمة؟
**بالطبع. “لينا” بطلة وكل أم تقاوم نزع أطفالها منها بطلة. ليس للأم أن تبذل جهداً مضنياً لتحتفظ بطفلها. قدّم الفيلم جزءاً عن معاناة عدد من الأمهات، فهنّ مرهقات نتيجة مطالبتهن باحتضان فلذات الأكباد. رحلة لينا إلى ألمانيا للوصول إلى طفلها المختطف إلى هناك “جاب آخرتها”، هذه الأم “استوت” من التعب. الأمهات اللواتي يعشن همّ حرمانهن من أطفالهن يعانين أوضاعاً نفسية صعبة. مطلوب من المجتمع والأهل دعم الأمهات اللواتي يقاتلن من أجل حضانة أطفالهن كما حصل مع “فاطمة حمزة” فهي محتضنة من عائلتها، وشقيقتها محامية ناشطة وتدافع عن حق الأمهات في حضانة أطفالهن. وعندما سجنت “فاطمة” لأسبوع لرفضها تسليم ابنها لطليقها أصبحت قضية رأي عام.
*كان جيداً أن تتركي للأم “إياد” مساحة تقمص شخصية القاضي تمثيلا. بأي هدف وظفت المشهد؟
**حين قُبلت لينا لاجئة في ألمانيا حُدّد سكنها في المنزل الذي صورتها فيه. زرتها في تلك البلدة القريبة من فرانكفورت وشاركتها السكن 16 يوماً. وكانت للكاميرا فرصة الإقتراب من شخصيتها. لم تقاوم الكاميرا وكانت على استعداد للكلام، واستمرت على سجيتها طوال الوقت رغم الضغوط التي كانت تعانيها. كانت بانتظار قبول لجوئها رسمياً، وبانتظار قرار المحكمة بشأن طفلها المخطوف من قبل أبيه بأوراق لبنانية مزورة، وأقله كانت بانتظار مشاهدته. تركت لينا الضغوط الواقعة تحتها والتي أتعبتها نفسياً تخرج. تتميز شخصيتها بالفكاهة، ولديها ملكة الكتابة وخلال الفيلم كتبت أشعاراً وأغنيات لابنها. وقالت لي علّ وعسى سيقرأ ابني هذا الدفتر ليعرف أني لم أتركه. كانت على سجيتها حين تقمصت شخصية القاضي، وبديهي أن لا أترك المشهد يفلت مني. إنه فيلم للأمهات ولم يكن في نيتي اعطاء دقيقة من الوقت لرجل دين.
*من مِن الأمهات اللواتي شكلن عناصر الفيلم تركت أثراً بليغاً في نفسك؟
**جميعهن. إنما الوقت الطويل الذي أمضيته مع لينا أعطى نوعية تصوير مختلفة. تأثرت بحالة البرود التي اصيبت بها “زينب” نتيجة القهر، وشرودها المستمر. رعب “فاطمة” من أن يُسرق طفلها منها قاسٍ جداً. تعيش في تكتيك بوليسي مع والدتها كلما فكرتا بمغادرة المنزل مع الطفل. ويساعدها اخوتها في مراقبة الطريق.
*لمن وصل وثائقي “الجنة تحت أقدامي”؟
**عُرض لمرة واحدة على التلفزيون الفرنسي القناة الثانية، وفي مهرجان “فيزيون دو رييال” في سويسرا. كان القرار بأن يكون العرض الشعبي الأول في بيروت، والانتفاضة أرجأت المواعيد، وسارعت كورونا لمزيد من الإقفال. والأمل معقود على الأيام المقبلة للعرض في لبنان. فالفيلم يشكل حجة دفاع تضاف لكافة الجهود التي بُذِلت ويجب أن تُبذل في قضايا حضانة الأطفال. وأتمنى أن يشكل الفيلم إضافة في الوعي، وأداة ضغط أخرى على صنّاع القرار لإتخاذ قرارات في مصلحة الأطفال والأمهات.
*الفيلم تمويل أو إنتاج مشترك والأكبر منه غربي. لماذا يمول الغرب مشاكلنا الاجتماعية والقانونية في رأيك؟
**بل الجزء الأكبر من إنتاج الفيلم ذاتي. فعبير هاشم واحدة من الأمهات الأربع منتجة ليس تقنياً فقط، بل مادياً كذلك. بعد تصوير الفيلم بجهد ذاتي حصلنا على الإنتاج المشترك فدفعنا مستحقات العاملين معنا وأكملنا المونتاج. وجد الممولون حساسية في الموضوع وامتنعوا عن المساهمة، علماً أني لم أهاجم طائفة أو مذهباً، وهذا ما تقوله مقدمة الفيلم. تناول الفيلم الأمهات اللواتي لهنّ قصصاً أشد وقعاً، وكنّ جميعهن من الطائفة الشيعية. وليس من حق أي مشاهد أن يقترب من الفيلم بأنه نقيصة. في مجتمعنا العربي مسارب كثيرة وليس لنا التحسس والتحرج من تناول أي موضوع. نحتاج لفتح كل قضايانا وبدون خطوط حمر، والهدف النجاة. من وجهة نظري يشكل الفيلم نشراً للوعي ومن شأنه أن يُحدث فرقاً.
ماذا تقول عبير هاشم الأم والمنتجة لفيلم “الجنة تحت أقدامي”:
*كيف استوت الأمور بين أن تكوني منتجة وأحد عناصر الفيلم في آن؟
**بعد انفصالي عن زوجي بدأت العمل مع إخوتي في شركة إنتاج خاصة بهم. عمل لم أكن قد اختبرته بل بدأت تدريباً ميدانياً تدريجياً، ورحت أراكم خبرة في التصوير والإنتاج والمونتاج. وكذلك اكتشفت عالم الأفلام الوثائقية التلفزيونية ووجدت ذاتي فيها. وأول فيلم نفذته كان لتلفزيون “بي بي سي” عمل أمدني بخبرة كبيرة في الفيلم الوثائقي. أن أكون من عناصر فيلم “الجنة تحت أقدامي” فهذا شكل تحقيقاً لفكرة طالما راودتني حين كنت أزور المحاكم الشرعية لجلسة خاصة بي لدي قاضي الشرع علي مكي. كان الانتظار يطول في الصالة وأنا أراقب النساء الموجودات. كانت مشاكلهن تفوق مشكلتي بدرجات. كنت أدخل إلى القاضي لأسأله كيف يتحمل امرأة لم تحصل على الطلاق منذ 20 سنة وهي كانت مرتبطة فقط بصفة خطيبة؟ في حين يحضر الخطيب أو الزوج السابق برفقة أبنائه من زواجه الثاني؟ مشاكل لا تُصدّق كانت تنسيني مشكلتي. فأين العدل؟ ومع انطلاقي في العمل كان التعبير عن تلك المشاكل يراودني. وحين توطدت علاقتي بالمخرجة ساندرا ماضي سألتها أن تتولى مسؤولية فيلم عن مشاكل النساء مع المحاكم الشرعية والفساد داخلها.
*هل شكل الفيلم راحة لك كون حكايتك مع الأمومة والطلاق لم تكن سهلة؟
**من دون شك. ورغم حصولي على الطلاق قبل الفيلم بزمن إلا أن وجعاً داخلياً لا بد أن يخرج حين نحركشه. وللحقيقة المخرجة ساندرا ماضي ماهرة في استخراج الأوجاع الدفينة. وعندما خرجت إلى الإعلام قضية سجن فاطمة صار للموضوع أبعاداً مختلفة. وبعد بحث وسؤال متكرر وجدنا حالتي لينا وزينب وكانتا خير دليل على عذابات الأمهات بشأن الحضانة. من دون شك شكل الفيلم راحة لي وستتكامل مع عرضه في لبنان حين تسمح الظروف ولنقف بعدها على ردود الفعل. يختزن الفيلم وجعاً كثيراً لا نلمسه خلال المظاهرات الداعية لرفع سن الحضانة وتغيير القوانين ليس فقط لدى الشيعة بل الجميع. المتلقي الذي يوجعه مشهد مرّ على الشاشة سيبقى يتذكره، وعندها يزداد الداعمون ونحقق التغيير.
*كمنتجة هل تفكرين بعروض خاصة للفيلم في لبنان؟
**بالتأكيد. بعد عروض مميزة في بيروت سنعمل لعرضه في القرى والبلدات اللبنانية. وسنتعاون مع البلديات والجمعيات والنوادي الثقافية. المطلوب أن يشكل الفيلم درساً للناس وخاصة النساء.
*تأمين الإنتاج كان سهلاً بالنسبة لك؟
**بل متعثراً جداً. كان الداعمون العرب يوافقون ومن ثم ينسحبون. ربما لأن الفيلم يتحدث دون مواربة عن مشاكل الأمهات مع الحضانة والطلاق. لهذا كان الإنتاج المشترك مع فرنسا عبر مؤسسة “فيلم دي سي ميديترانية” وسيرج لالو وحسان شامي سهلاً. وشاركنا المونتاج عماد ماهر من مصر، ورائد زينو في لبنان ودعمهما كان كبيراً.