للأشياء ماهياتها التي تعنينا حين نريد أن نصنّفها ولنقل بعبارة المناطقة حين نريد أن نُمَقْوِلَهَا. هذه المقولة هي التي تجعلنا نضع قلم الرصاص في مكانه من مكتبنا، أو من محفظة أدواتنا المدرسيّة؛ وتضع المرأةَ قلم الشفاه في حافظتها الخاصّة. المقولة هي التي تجعلنا نخرج من الباب لا من الشباك، ونركب الدراجة النارية بالجلوس على الكرسي، لا على أيّ مكان آخر.. المهمّ أنّ مقولتنا للأشياء لا تساعدنا فقط على تصنيفها، بل على توجيه طريقة التعامل معها.
للأشياء وظائف أيضا تجعلنا نقتنيها كي نستعملها في مجال دون آخر، نحن نشتري قلم الرصاص كي نرسم به، أو نكتب به ما يُمحى. سحر قلم الرصاص أنّه يخطّ ما يقبل أن يُرجع عنه. قلم الشفاه لا يخطّ ما يمحى، بل ما يبرز في الشّفاه من حدود ومن حمرة. لكنّي أنا لا أحتاج قلم شفاه حاجتي إلى قلم الرصاص، لذلك لا أقتني أشيائي إلاّ لوظيفة أرتئيها. قد أقتني لصغيرتي الجميلة قلما للشّفاه هديّة. الهديّة ليست شيئا يوهب إلاّ لوظيفة يعتقد مانحها أنّ من تهدى إليه يكون في حاجة إليها كي يوظّفها في حاجة أو لغرض.
في المناسبات تهدى الأشياء النفيسة، ولكن أيضا تهدى الأشياء البخسة التي لها من جهة قيمة رمزيّة. حين كنّا ننجح في الامتحانات المهمّة كان الجيرانُ يهدوننا المشروبات الغازيّة والحلويّات، وكنّا نردّ لهم الهدية نفسها في المناسبات نفسها. لم تكن علب المشروبات الغازية عزيزة في ذلك الوقت، ولكنّنا كنّا نتقبّلها بكل سرور لأنّها تحمل رسالة فرح. وردة من الحقلِ لفتاة تحبّك تكفي أن تجعل ذلك المقطوف أغلى من أراضي الدنيا لو أهديت. الفقراء قادرون على أن يجعلوا أشياءهم البخسة ذات قيمة بالرمز. يعني الرمز ههنا ما يعنيه في السيميائيّة: علامة تمثّل شيئا وتكون علاقته بما يمثّله اعتباطيّة. هناك ميلٌ فطريّ إلى إلغاء معاني الأشياء العاديّة، أو ماهيّاتها والضرب صفحا عن مقولاتها التي تنتمي إليها، من أجل خلق قيمة لها رمزيّة من شأنها أن تضخّم من قيمة علاقيّة تربطنا بالأشخاص الذين أهدونا تلك الأشياء البخسة والرمزية. ينشأ مع الفقر شيء من الثراء لا في مستوى قيمة الأشياء، بل في مستوى رمزيّتها. لكنّ هذا الضرب من التحويل في قيمة الأشياء البخسة في الواقع إلى قيمة لها رمزية في التمثّل، ليس يسيرا. فالتشبّع بالأشياء على أنّ لها ماهيّات ووظائف بقدر قيمتها المادّية، يجعل من الصعب الانتقال بتلك القيمة الحقيقية البخسة إلى قيمة رمزية.
ليس فقرنا هو الذي يجعل أشياءنا التي نملكها من غير قيمة، بل هي رؤية عامّة وثقافيّة لقيمة تلك الأشياء. في أعراس الفقراء، وفي أعراس الأغنياء تقتني المرأة تقريبا الأشياء نفسها وأبرزها الحليّ، ولا سيّما ما كان نفيسا منه. هناك مشترك عامّ بين ما تشتريه المرأة في كلّ الطبقات: خواتم وأقراط وأطواق وغيرها. يدفع الرجل الفقير مالا طائلا من أجل أن يوفّر لزوجته ذلك، وقد تعينه سرّا إن كانت تستطيع أن تعينه فعلا. ويدفع الرجل الغني مالا طائلا من أجل أن يوفر الشيء نفسه لزوجة المستقبل لكنّ القيمة المادّية للمقتنى تختلف بين الفقير والغنيّ، هذا بديهي. غير أنّ الشعور المصاحب لاقتنائه يقلّ لدى الميسورين، ويتضخّم لدى المحرومين. يمكن أن تعتبر المرأة الفقيرة حليّا متوسّط القيمة باهظا، بالمقارنة هي تزن حليّها بطبقتها فتشعر بالرضا والانتشاء بما وصلت إليه. وفي المقابل يمكن أن تعتبر المرأة الغنيّة حليّها الباهظ عاديّا، فتشعر بالحرمان، إن هي قارنت بغيرها من نسوة طبقتها.. فإذن ليس للأشياء من قيمة إلاّ من خلال محيط ما أو طبقة معيّنة. نحن نطبّق هنا فكرة قال بها اللسانيّون هي فكرة القيمة: ليس للأشياء من دلالة بل لها قيمة في علاقتها بغيرها من الأشياء.
في العائلات الفقيرة تربي الأمّ أبناءها على تقبّل تصالحي للواقع. في هذا التقبّل تكون قيمة الأشياء لا بثمنها الحقيقي، بل بالتسليم بأهميّتها. كانت هذه الثقافة مؤطّرة بكثير من المقولات الاجتماعيّة والدينية التي تقنع بقوة الاعتقاد – ولكن أيضا بسلطة التجربة- أنّنا «لا يمكن أن نخرج من قشرتنا» وأنّ» الفقر ليس عيبا» وأنّ المعيب فعلا هو نقصان الشرف، وأنّ «مصيرنا قدرٌ محتوم « ليس لنا إلاّ أن نرضى به، لأنّ لله حكمته التي جعلتنا في وضعيتنا التي نحن فيها. التسليم بما لنا لا لأنّه قدر ظالم بل لأنها حكمة هو أهمّ شيء يجعلنا ننسّب قيمة الأشياء، ولكنّه يجعلنا نرضى بالقليل ونسعى إلى أن نصنع له قيمة رمزيّة ليست له.
العنصر الذي لا ينتهي في القصتين الرومانسية والواقعية هو الحسم بعد الاختيار. فبعد سنوات من زواج الريفية بشاب الحقول، ستتذكّر ذلك الخاتم وباقة الورود ولربّما ندمت على التفريط في حياة ترف كان من الممكن أن تكون فيها الأشياء ذات قيمة فعليّة.
في هذا المحيط الثقافي يُهدى اللّحمُ في المناسبات ويُهدى اللباس. يهدي الناس ما يحتاجونه أوّلا حاجَةَ مَعِيش. في هذه الثقافة يركّز الناس غالبا على الأشياء التي تحفظ للحياة سيرورتها. لكنّك يمكن أن تجد فيها بحثا عن الأشياء البسيطة التي لا تكلّف ما لا قدرة عليه. سعى الإنسان في هذا المحيط إلى أن يبحث عمّا يأكله فابتدع القنص والزراعة، لأنّها وإن كانت تحتاج قوة بدنية وصبرا، فإنّها أشياء له قدرة عليها. في هذا المحيط يحتاج المرء الحبوب أكثر ممّا يحتاج الزهور. البعد الجمالي ليس غائبا تماما، لكنّه مخفيّ أو متوار أو محتشم. حين يقدم الربيع مع القمح الورود تكون عيون الناس غالبا على الحبوب وقليلة هي العيون التي ترى الورود. وأن يجلس عاشقان سرا على صخرة في حقل ويهديها وردة من ورود الحقل، فتخفيها بين طيات ثيابها، أو تضعها في كتاب قديم، أو تنثر أوراقها تحت وسادتها، فيعني ذلك أنّ هناك درجة ثانية من الاهتمام الرمزيّ بالأشياء هو الذي من شأنه أن يعطي للأشياء البسيطة قيمة رمزيّة. قد يأتي شابّ ثريّ فتعجبه الفتاة نفسها يواعدها ويهديها خاتما مرصّعا بالحجارة الكريمة، أو باقة ثمينة من الورود اقتناها من بائعي الزهور في المدينة المجاورة. ستتفاعل رمزيّة الأشخاص ورمزّية الأشياء لصياغة ردّ فعل تلك الفتاة. فإذا عدنا إلى قصصنا الرومانسيّة سنجد أنّ وردة الحقل وفقر الشاب الأوّل وحميميّته سيغلبان الخاتم المرصّع بالجواهر. لكنّ الفتاة ستكون إزاء اختيار صعب والطابع الرومانسي للنهايات سيجعل الأشياء البسيطة والبخسة والتافهة، من مصدر من تحبّ ذات قيمة عالية رمزيّا، وستميل بقلبها إلى فقرها. غير أنّ قصصنا النفعيّة التي يراد لها أن تكون واقعيّة ستغلّب الخاتم المرصّع بكريم الحجارة، وباقة ورد المدينة. سيحدث صراع بين قيمة الأشياء الرمزية وقيمتها الفعليّة؛ وستكون الغلبة للثراء والدّعة.
العنصر الذي لا ينتهي في القصتين الرومانسية والواقعية هو الحسم بعد الاختيار. فبعد سنوات من زواج الريفية بشاب الحقول، ستتذكّر ذلك الخاتم وباقة الورود ولربّما ندمت على التفريط في حياة ترف كان من الممكن أن تكون فيها الأشياء ذات قيمة فعليّة. وقد تشعر بخيبة الاختيار، وتتمنى ولو للحظة حياة الدّعة والثراء. وبعد سنوات من زواج الفتاة الفعلي من رجل الأحجار الكريمة والورود المدنية، وحين تفتح بالصدفة كتابها القديم، وتجد وردة الحقل القديمة، قد تشعر بخيبة الاختيار وربّما قالت بينها وبين نفسها، إنّ الفقر مع راحة البال خير من الغنى والبلبال. ستكون بقايا الوردة شيئا غاليا رغم أنّ تلك البقايا لا تساوي شيئا.
كلّ أشيائنا البسيطة التي قد لا تساوي شيئا ستساوي الكثير داخل نظام رمزي وبالنسبة إلى الدلالات التي اكتسبتها عندنا. فعلاقتنا التي تربطنا بغيرنا تتدخّل في نوعية العلاقات التي نقيمها مع أشيائنا التافهة. بهذا المعنى نحتفظ بأشياء لا قيمة ماديّة لها وبأشياء فقدت وظائفها الأساسيّة من زمان لا لشيء، إلاّ لأنّ لها قيمة رمزية لا يعلمها غيرنا ونعلم أنّها لم تمت.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
يعطيك الصحة والعافية سي توفيق
ممتع يا استاذ توفيق راق لي اطراءك على قلم
.
الرصاص فطالما كان البسيدو المفضل لدي ولايزال
.
يلزم بعض تعليقاتي
ما هي القيمة في السوق التجاري، لأي منتج من المنتجات الإنسانية، وكيف تكون مهارة في المفاوضة، لتحصل على أي شيء، حتى لو كان الإنسان المنتج نفسه،
هو أول ما خطر لي عند قراءة ما ورد تحت العنوان التالي (أشياؤنا التي لا تساوي شيئا) في سياق قبول فرنسا،
رد رفات مقاومي فرنسا عند إحتلال الجزائر قبل أكثر من قرن، فهل هناك ثمن لهذه الجرائم أم لا،
في سياق صحوة ضمير الإنسان، ضد ظلم موظف تنفيذ النظام في أي سلطة، داخل نظام الأمم المتحدة البيروقراطي في عام 2020؟!
لأني لاحظت ثقافة الأنا أولاً الأوربية، بشكل عام تجهل معنى الحب أو الولاء أو الإيمان، على أرض الواقع، إلّا من رحم ربي،
وهو أول تعليق لي على ما ورد تحت عنوان (رسائل حب ملغمة) والأهم هو لماذا؟!
الرئيس في مصر يُريد تحديد النسل، في أكثر من مناسبة،
بحجة هو المسؤول عن توفير الوظيفة والراتب التقاعدي لأي إنسان في الدولة، وليس الله،
فهل مثل هذه العقلية، تفهم معنى الإقتصاد في أجواء العولمة، بعد 1945؟!
والسبب مناهج التعليم، التي درس عليها عبدالفتاح السيسي وقبله حسني مبارك فاسدة،
ويجب تغييرها، بطريقة صالح لتعليم كل اللغات ومن ضمنها لغة الآلة، (مشروع صالح التايواني)،
ليكون الأساس فيها، كيف تُنتج، أي منتج يكون ذو عائد إقتصادي مُربح، لو تم عرضه في السوق، بدل رسائل الحب الملغومة، أو الحب الزائف، من أجل إنتاج منتج لغوي وبه شيء من المصداقية، لينجح تسويقه تجارياً، على حساب المحبوب المُغفّل،
لأن التوجيه الإعلامي، شيء
وحقيقة ما يجري على أرض الواقع شيء آخر، بخصوص:
سن العمل،
سن الزواج،
ومن له حق تحديده، هل هو أهل الطفل/الطفلة أم الدولة، في شبه القارة الهندية أو دول مجلس التعاون في الخليج العربي، كما يطرحها أهل الإعلام، لتشويه صورة الإسلام أو العرب بعد 11/9/2001؟!
ثم، هل أي وظيفة، تعني العبودية بالنسبة إلى الطفل أو المرأة، داخل البيت أو خارجه، أم تعني وسيلة دخل؟!
ثم، هل على الدولة مسؤولية توفير الوظيفة والتقاعد كراتب؟!
أم الوظيفة، يجب أن تكون مرتبطة بزمن وإنتاج بجودة وكفاءة وبلا غش، قبل تسليم أي أجر/راتب، قبل أو أثناء أو بعد كورونا،
وإلّا أي إقتصاد سيفلس، حتى لو كان الدولة، لديها كل ما تحتاجه أي صناعة أو زراعة أو خدمات من مواد لكي تخلق سوق،
تعرض فيه هذه المنتجات على أرض الواقع أو في العالم الافتراضي (موقع فلسفة السوق الأمريكي (أمازون)، أو موقع حكمة السوق الصيني (علي بابا) أو موقع منتجات سوق الحلال (صالح)).??
??????
*** كلّ أشيائنا البسيطة التي قد لا تساوي شيئا ستساوي الكثير
*** كلّ أشيائنا البسيطة التي لا تساوي شيئا، فيما يبدو، قد تساوي الكثير
(احتمالية الحدث بـ”قد” تأتي عادة كنتيجة منطقية بعد ظاهريته بدون “قد”!)