يُمارَس الحكي لدى الإنسان في الحوار مُنذ مرحلة الطفولة، باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من عادات الطفل التواصلية اليومية، إذْ يتّخذ صورة طقس شفوي، تُحفّز عليه أسئلة الأبوين إلى طفلهما: «ماذا فعلت؟ إحك؟ ماذا ستفعل؟» تدفع هذه الأسئلة الطفل إلى تقديم محكيات عن أنشطة قام بها، أو أحداث تعنيه كان فاعلاً فيها أو أسئلة عن ما يتطلع إليه من أفعال وأحلام.
وهي أسئلة معهودة قد تُطرح على الكبار أيضاً، فحين يعود الطفل من المدرسة يحكي لأمه عن أحداث يومه بأكملها في المدرسة وماذا فعل؟ وماذا شاهد؟ وهو بذلك يُمارس الحكي السيرذاتي بدون أن يعلم، ممّا يؤكد أن الكتابة عن الذات ليست غريبة عن النشاط الإنساني اليومي، بل هي مُتجذرة لديه، إذْ تُصاحبه مُنذ مراحله العمرية الأولى وتلازمه كل يوم. لكن هذا النشاط لا يتوقّف عند مرحلة الطفولة، بل يستمر مع الإنسان طوال وجوده، إذ لا بد له في لحظات من يومه من أن يجيب عن أسئلة شبيهة بتلك، فيحكي للغير عن ذاته وعن نشاطاته، وعما وقع له من أحداث، وكذا عن مشاغله وتطلعاته وآماله، مما يؤكد أن الحكي عن الذات ممارسة إنسانية وثيقة الصلة بالتجربة الوجودية للإنسان، في تفاعلها المستمر مع العالم ومع الغير، وما يحققه من نجاح، وما يتكبده من إخفاقات وخسائر، وبصيغة أخرى، ما يترتب عنه من تجارب إنسانية متنوعة ومتجددة، إلا أن هذا المحكي يظل عفوياً ولا واعياً، ومُجرد جزء غير منفصل عن سلوكات الإنسان اليومية ويظل حبيس الحديث الشفوي.
في مقابل ذلك يمكن أن يتخذ هذا الشكل من المحكي طابعا واعيا حين ينتقل من مجال الشفوي إلى المكتوب؛ فيتخذ أشكالا عديدة، كاليوميات والشهادات والمذكرات، يحاول فيها المرء تدوين بعض الأحداث والوقائع التي بدت له لافتة ومثيرة ومهمة في وجوده. يشكل هذا النوع من التدوين بداية للكتابة لديه، على حد تعبير رولان بارت، التي قد تكون بمثابة مادة خام قد تستثمر مستقبلا لتصير سيرا ذاتية، يحاول فيها الإنسان منح قيمة لذاته ولالتزامه في سيرورة من المهام التي أوكلت له، ساعيا إلى إبراز دوره الاستثنائي المتميّز، كتوثيق للهوية والاحتفاء بها والإشادة بها، أو لشهادة عن عصره، وصولاً إلى التخييل الذاتي ورحابته التي تسمح للذات بأن تكسّر الحدود بين الذاتي والواقعي والتخييلي؛ مفككة للذات وكاشفة عن تشابكاتها وتناقضاتها في علاقتها بالعالم وبالغير في أبعد حدودها.
٭ كاتب مغربي