برغم ما يتصوره البعض لم تكن انتخابات تونس الاخيرة كأية انتخابات اخرى، بل جسدت صراعات عديدة: بين الايديولوجيا والمال النفطي، وبين قوى الثورة والثورة المضادة، وبين الاسلام السياسي والقوى العلمانية المتشددة، وبين الارادة المحلية وسياسات الدول الاقليمية، وبين الاعتدال والتطرف.
ولذلك كان حماس كافة الاطراف المعنية بها كبيرا، وكذلك رغبات القوى الاخرى خارج البلاد. ولذلك يصعب تحديد المنتصر فيها والمهزوم. الامر المؤكد ان الشعب التونسي لم يكن المشارك الوحيد فيها، وان اقتصر التصويت فيها على افراده. فالانتخابات ليست التصويت فحسب، بل ما سبقه وما تدخل للتأثير عليه، وما أعقبه. وفي بلد يفتقر للتدقيق في مصادر تمويل الفرقاء او حماية الحدود والعقول والنفوس من التدخلات الخارجية، لم تكن الانتخابات تعبيرا واقعيا عن ارادة الذين ادلوا باصواتهم.
الصراعات المذكورة لم تكن جديدة، بل صاحبت الوضع التونسي منذ قرابة الاعوام الاربعة عندما اتضح ان تغييرا ما سيحدث في ذلك البلد العربي الواقع في منتصف الشمال الافريقي. وبرغم صغر مساحتها وعدد سكانها، لم تكن تونس بمعزل عن الشأن العربي او الاسلامي ماضيا وحاضرا. فقد كانت ساحة اخرى للصراع العربي – الاسرائيلي، وتعرضت للاعتداءات الجوية الاسرائيلية عدة مرات واستشهد فيها خليل الوزير (ابوجهاد) في 1988 وصلاح خلف (أبو أياد) في 1991. وشاركت في انطلاق ما يطلق عليه «الاسلام السياسي» في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، ومنها تنطلق اليوم المجموعات المتطرفة للالتحاق بجماعة «داعش» في كل من سوريا والعراق.
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية الاسبوع الماضي فهناك مراكز تدريب في الجبال تعد المقاتلين قبل مغادرتهم. وهناك اكثر من 3000 من التونسيين الذين التحقوا بصفوف داعش في البلدين المذكورين. ولذلك لن تنحصر آثار نتائج الانتخابات الاخيرة التي هي أولى الانتخابات لبرلمان دائم وفق الدستور التونسي بنتائجها المباشرة التي استبعدت حركة النهضة من المركز الاول في البرلمان الدائم. بل لا يستبعد ان تكون تونس هي البلد التالي على قائمة «داعش» للاجتياح المسلح خصوصا مع وجود بيئة حاضنة للمجموعات المتطرفة. وقد عرفت تونس وحركتها السياسية بالاعتدال والوعي الذي ادى لاشعال ثورات الربيع العربي.
وقد سجل التاريخ ان الشاب محمد بوعزيزي المنحدر من منطقة سيدي اوزو، اشعل تلك الثورة باشعال النار في جسده احتجاجا على ما تعرض له من اهانة على يدي موظف حكومي . كان بامكان ذلك الشهيد ان يقوم بعمل انتحاري ويفجر نفسه ليقتل الآخرين، ولو فعل ذلك لما كانت الثورة، ولكانت نتائج ذلك العمل مختلفة تماما. لقد عبر بوعزيزي عن طبيعة تونس وشعبها وحركتها الاسلامية المعروفة بالاعتدال ورجاحة العقل. ولذلك ثمة استغراب كبير من تحولها الى منطقة تفريخ للمتطرفين والارهابيين الذين يتدربون في جبالها قبل ان يغادروا الى البلدان الاخرى لتفجير انفسهم وغيرهم. انه تحد كيبر للحركة الاسلامية من جهة، ولكنه قد يكون امرا مفتعلا للانقضاض على ما تبقى من مكتسبات الثورة استكمالا لما يسمى «الحرب على الارهاب».
ربما فاجأ تراجع نصيب حركة النهضة في الانتخابات الكثيرين، فقد حصدت 69 مقعدا من اصل 217، بينما فاز حزب «نداء تونس» بـ 85. فما اسباب ذلك؟ هذا الحزب أسسه الباجي قائد السبسي قبل عامين لكبح هيمنة الاسلاميين ويضم مزيجا من مسؤولين عملوا مع الرئيس السابق زين العابدين بن علي ونقابيين ويساريين. الصراعات المذكورة ساهمت جميعا في هذه النتيجة التي خطط لها بدقة بمشاركة قوى الثورة المضادة. وهناك خشية من تكرر فوز الحزب المذكور في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في وقت لاحق هذا الشهر، والتي سيترشح فيها زعيمه السبسي. اما القوى الثورية فسيمثلها في تلك الانتخابات الرئيس الحالي، المنصف المرزوقي، وهو العلماني المعتدل الذي تحالف مع الاسلاميين قبل الثورة وبعدها.
اذا كانت سياسات حركة النهضة قد حرمت قوى الثورة المضادة من فرصة التدخل المباشر، على غرار ما فعلته في مصر او ليبيا او ما تفعله في العراق وسوريا، فقد كانت الانتخابات التشريعية الاولى بعد التوافق على الدستور الدائم، الفرصة الاخيرة لمنع وصول «الاسلاميين» الى السلطة. بل سبق ذلك ضغوط متواصلة عليهم منذ ان حققوا نصيب الاسد في الانتخابات التي اجريت في العام 2011. فقوى الثورة المضادة ترفض بشكل قاطع وصول الاسلام السياسي الى الحكم، سواء عن طريق الثورة الشعبية ام صناديق الاقتراع. وحين وصلوا الى رئاسة مصر كثفت قوى الثورة المضادة جهودها لاسقاط حكمهم قبل ان يستحكم وجودهم في السلطة، فما مر على انتخاب محمد مرسي عام واحد حتى حدث الانقلاب العسكري الذي هو الاكثر دموية في ذاكرة الجيل العربي المعاصر. ولذلك لم تكن هذه القوى بقيادة المملكة العربية السعودية لتسمح بوصول حركة النهضة الى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع لتقيم بذلك نظاما جديدا يمثل «الاسلام السياسي».
المعلومات المتوفرة تشير الى دور المال النفطي في تحديد نتيجة الانتخابات. فقد انفقت الامارات العربية الملايين لدعم المجموعات المناوئة للنهضة والتي تضم من يسمون «فلول» نظام زين العابدين بن علي ضمن حزب «نداء تونس» الذي ضم بالاضافة لهؤلاء بعض الشخصيات الليبرالية واليسارية. بينما انتظمت القوى الثورية في ما يشبه التحالف الذي ضم الاسلاميين واليساريين. وقد أثر على حظوظ حركة النهضة العديد من العوامل. اولها المال النفطي الذي كان له دور كبير في الدعاية الانتخابية لغير صالح القوى الثورية، ثانيها: تداعيات التجربة المصرية والاعلام المضاد الذي موله المال النفطي وشوه به صورة الاخوان المسلمين بشكل غير مسبوق. حدث الهجوم الاعلامي قبل الانقلاب واستمر بعده حتى اليوم. وقد اثر هذا الاعلام على عقول الكثيرين، حتى اصبحت سمعة الاسلاميين مرتبطة بالاستبداد والتخلف والفساد والاقصاء.
ثالثا: ان توسع العنف والارهاب الذي يمارس باسم الاسلام من قبل المجموعات المتطرفة كالقاعدة والنصرة وداعش أدخل الرعب في نفوس الكثيرين فعبروا عن ذلك بعدم التصويت لحركة النهضة. رابعا: ان زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، معروف باعتداله ورجاحة عقله، وان كان البعض يأخذ عليه جنوحه احيانا لدعم التشدد او السكوت عليه، برغم خطاباته الرافضة للمجموعات المتطرفة، ويستطيع ان يستفيد من تجربة الانتخابات الاخيرة لاعادة صياغة خطاب يتناسب مع المرحلة، ويعكس قوة الموقف والثبات على المبادىء والتصدي لقوى الثورة المضادة. خامسا: ان هناك مشكلة عميقة تجسدت آثارها في الثورات العربية، سواء التي شهدت بعض التغيير او التي تم اجهاضها، وهي اختلاط منطق السياسة بمنطق الثورة، وعدم الاستمرار في مشروع التغيير لازالة الاستبداد ورموزه عن ادارة الحكم بشكل كامل. فالانظمة التي حكمت البلدان العربية تغولت وامتد نفوذها ليشمل كافة مفاصل الدولة والمجتمع، ولذلك يبدو القضاء عليها خيار صعبا لدى البعض، فيسعى للتعايش مع من يسميهم «الفلول». لكن ما ان تخمد روح الثورة وتستبدل بالسياسة حتى يستعيد هؤلاء «الفلول» قوتهم وينقضوا على الحكم. هذا ما حدث في مصر واليمن وتونس. وتدفع القوى الثورية التونسية الآن ثمن القبول بمبدأ التعايش مع النظام السابق الذي احتفظ بكافة اركانه في ما عدا الرأس الذي سقط. هؤلاء «الفلول» يتحولون الى طابور خامس لقوى الثورة المضادة التي تسعى لمنع التغيير او القضاء على ما تحقق منه. يحدث هذا في تونس كما حدث في مصر واليمن (قبل التغيير الاخير الذي قاده الحوثيون مؤخرا).
تواجه تونس ما بعد الانتخابات تحديات عديدة في مقدمتها قضايا الاقتصاد الذي يشتكي المواطنون من ركوده ويتبرم الكثيرون بان الثورة لم تؤد الى تطوير اوضاعهم. كما تواجه ملف العنف المتنامي الذي لا يستبعد ان يدخل البلاد في اتون حرب داخلية كما حدث في الجزائر في التسعينات، ان لم يتم التصدي له بحكمة وحزم ورؤية واضحة.
وما التحذير الذي اطلقه الشيخ راشد الغنوشي بعد اعلان نتائج الانتخابات وتحذيره من عودة الاستبداد الا مؤشر للقلق الذي يساور عقلاء القوم: «هناك مخاوف في البلاد من عودة حكم الحزب الواحد والهيمنة على الادارة ومؤسسات الدولة». وستكشف الانتخابات الرئاسية آفاق الاستقرار في البلاد.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
ما حصل فى تونس معجزة الاهية.حل مشاكل تراكمت منذ خمسين سنة فى ثلاثة سنوات أمر مستحيل.منذ اللحضة الاولى اللتى فازت فيها النهضة طلبت الجميع بأن يكونوا طرفا فى الحكم.الثلاثى اللذى حكم تونس أنقض البلاد من الكارثة.ما ميز المرحلة الانتقالية هو أرقام فياسية من الاضرابات والوقفات الاحتجاجية و قطع الطرق و تعطيل الانتاج الحيوى.فى ما يخص النتائج الانتخابية على المحللين أن يقرؤا التاريخ و ينظرون مذا وقع للجنرال ديقول و شرشل بعد الحرب العالمية الثانية.أقصاهم شعبهم بلانتخابات وهم “أبطال الحرب”…..كل ما يحصل اليوم طبيعى جدا و ايجابيته تكمن فى اجبار الكل مراجعة النفس لتقبل الاخر و التعايش معه و هذا فضل من الله على العباد و رحمة بهم لعلهم يتفكرون.