لماذا الدراسات الأدبية الرقمية؟

حجم الخط
1

كثيرا ما يطرح عليّ، سواء في حوارات أو لقاءات، سؤال حول «النقد الرقمي»؟ سؤال تقليدي لأنه ينقل صورة النقد الأدبي، كما فهمناه ومارسناه، من مجال إبداعي تكرس في نطاق الكتابة والطباعة إلى مجال آخر، بدأ يتولد مع المرحلة الرقمية. تكمن تقليدية السؤال كذلك في ما نعاينه من تطبيقات عربية، سواء في مقالات، أو رسائل جامعية، وهي تهتم بجوانب رقمية، في أننا ننظر إلى عالم جديد من خلال نظارات قديمة.
لمناقشة هذا السؤال، لا بدّ من وضع صورة موجزة عن مسيرة النقد الأدبي، كما تكرس في الجامعات العربية، لنقف على المراحل الكبرى التي قطعتها أقسام اللغة العربية وآدابها في الوطن العربي، للوصول إلى التحولات التي باتت تفرض تفكيرا جديدا، وتغييرا جذريا في مسمى هذه الأقسام، وتكويناتها، ومقرراتها، لكي تتلاءم مع طبيعة العصر الرقمي.
تشكلت شعب أو أقسام اللغة العربية وآدابها، في كليات الآداب العربية، في سياق ميلاد الجامعة الحديثة، التي اتخذت نموذجها من الجامعات الإنكليزية والفرنسية، ومن اهتمامها بالنقد والبلاغة العربيين. وكان الهدف من هذه الأقسام دراسة اللغة العربية وآدابها، مع التركيز على الآداب القديمة، إلى جانب الحديثة، مع إقصاء الأدب المعاصر، وقراءتها في ضوء المعارف التي تكونت في نطاق ما عرفته الدراسة الأدبية الحديثة في الغرب، والتراث النقدي العربي.
كانت البدايات مع بروز مفهوم «الأديب»، الذي جمع بين التكوين العربي الأصيل، والغربي الحديث. كان مصطلح «الأديب» يشمل في آن معا المبدع والدارس، سواء كان يكتب في الصحافة، أو يدرّس في الجامعة، وأيا كان الجنس الأدبي الذي يبدع في نطاقه (طه حسين والعقاد مثلا). إن الجمع بين الإبداع والدراسة مكن الأديب من معرفة أسرار الصناعة الأدبية، فجعله يعمل على دراستها من زاوية المبدع، والدارس معا، فكان حضور ذائقة الأديب وثقافته مهيمنا في ما يكتبه من دراسات. ولما كانت أقسام اللغة العربية تهتم بتاريخ الأدب، وفقه اللغة والبلاغة، كان التركيز ينصب في تدريس الأدب على فهم النص لغويا، وتذوقه، من خلال الإحاطة بجوانبه الخارجية (المؤلف والعصر)، عبر تقديم وجمع المعلومات المتفرقة في المصنفات المختلفة عن المبدع القديم. ومن هنا كانت هيمنة مصطلح «النقد الفني».
منذ أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تشكل جيل جديد، ممن تلقى تكوينه في نطاق ما عرفته أقسام اللغة العربية، فبدأ يسود مفهوم «المناهج الأدبية» التي كانت ترتكز على علوم خارج أدبية: فإلى جانب التاريخ، صرنا أمام علمي النفس، والاجتماع، بصورة خاصة، علاوة على علم التحقيق، وما كان يعرف بالنقد الفني. وبات مفهوم «الناقد الأدبي» يحل محل الأديب.

مع الثورة الرقمية، برزت الإنسانيات الرقمية (وضمنها الدراسات الأدبية الرقمية) التي تربط العلوم الإنسانية والاجتماعية بالتكنولوجيا. بتغيير أسماء كلياتنا وأقسامنا وإعادة هيكلتها في ضوء الرقميات، يمكننا الجواب عن السؤال.

ظلت الدراسات الأدبية في هذه المرحلة التي ستمتد إلى الثمانينيات، تركز على ما كان يعرف بـ»القضايا والموضوعات»، سواء اتصلت بالنص أو المؤلف. ومع هيمنة اللسانيات منذ الثمانينيات، ثم الدراسات الثقافية، صار التركيز على «تحليل النص»، وبذلك كان الانتقال من النقد الأدبي إلى الثقافي.
لقد تطورت ثقافة المشتغل بالأدب على مرّ العصور، فانتقلت من الإحاطة بالنصوص والاطلاع الجيد عليها، إلى امتلاك علوم الآلة، والبلاغة، والنقد والموازنة، وفقه اللغة في مرحلة الشفاهة وتطورها مع الكتابة، وبداية الطباعة (الأديب)، إلى امتلاك معرفة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية واللسانية، والدراسات الثقافية، في ظل هيمنة الوسائط الجماهيرية، وتطور الطباعة (الناقد). لكن مع بروز الوسائط المتفاعلة وانتشارها مع الألفية الجديدة، وبداية تشكل النص الرقمي متعدد العلامات والوسائط، يبدو أن الاكتفاء بالعلوم اللغوية والبلاغية والإنسانية والاجتماعية لا يمكن إلا أن يجعلنا نشتغل بنص له مواصفات جديدة بثقافة قديمة. ومن هنا تأتي ضرورة بروز مصطلح «العالم» الأدبي الذي يمتلك إلى جانب تراثه الثقافي: المعلوميات.
إذا كانت أقسام اللغة العربية في تاريخ كليات الآداب العربية، قد اهتمت بصورة خاصة بالآداب الرفيعة، أو المنتمية إلى الثقافة العالمة، بصورة أساسية، ونسبيا بالثقافة الشعبية، في شكلها اللغوي (شعرا، سردا)، أي أنها كانت تقتصر على ما صار يختزل في «النص الأدبي»، فإنها الآن بدأت تهتم بنصوص صورية وصوتية وحركية (الإشهار، السينما…) لكن الطابع المهيمن عليها ظل متصلا بالثقافة الأدبية التقليدية.
إن اقتران تأسيس كليات الآداب، وهي تضم في أقسامها اللغة العربية وبعض اللغات الحية وآدابها، بالعلوم الإنسانية، جعلها تختلف جذريا عن كليات العلوم في العلاقة التي تقيمها مع موضوعها (البعد العلمي)، وفي الوقت نفسه جعلها منفصلة عن كليات الفنون (التشكيل والسينما والموسيقى) في البلدان العربية، التي تشكلت فيها كليات تُعنى بها. هذا الفصل بين هذه الكليات جعل كليات الآداب والعلوم الإنسانية، ذات استقطاب مفتوح، ولا تنشغل بالبحث العلمي، وتكوّن تبعا لذلك المثقفين (المعارضين) لا العلماء أو الخبراء المساهمين في التنمية المستدامة؟ ومن هنا اللعنة التي تطاردها الآن من قبل السياسيين ورجال المال والأعمال.
مع الثورة الرقمية، برزت الإنسانيات الرقمية (وضمنها الدراسات الأدبية الرقمية) التي تربط العلوم الإنسانية والاجتماعية بالتكنولوجيا. بتغيير أسماء كلياتنا وأقسامنا وإعادة هيكلتها في ضوء الرقميات، يمكننا الجواب عن السؤال.

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    على أرض الواقع، أكبر هدر لموارد إقتصاد أي دولة، هو مفهوم النقد لأجل النقد، أو الرد لأجل الرد بحجة أهمية إثبات وجود على حساب المصداقية/المهنية/النزاهة أو عدم غش المقابل،

    وهو أول ما خطر لي بعد قراءة أول سطر تحت عنوان (لماذا الدراسات الأدبية الرقمية؟)، أما بعد الانتهاء من قراءة ما نشره (د سعيد يقطين) في جريدة القدس العربي، الأهم هو لماذا؟!

    العصمة أو الكمال أو عدم وجود أخطاء، لا مكان لها في تطبيقات آلات أم الشبكات (الشَّابِكة/الإنترنت)،

    خصوصاً، وأننا نعلم أدق تفاصيل البداية لكل شيء فيها،

    والأهم كل الإنسانية سواء بها،

    بعد مشروع مارشال، ونظام سويفت، وربط أسواق الأسهم، حول العالم لمنع انهيار الإقتصاد العالمي، بعد انهيار المعسكر الإشتراكي،

    الذي بدأ بسقوط حائط برلين عام 1989 وتوحيد ألمانيا، ثم تقسيم الإتحاد السوفيياتي، عام 1992،

    عند وصول كلينتون وآل غور أصحاب عبارة (إنه الإقتصاد يا غبي) لتوضيح لجورج بوش الأب سبب خسارته الانتخابات، رغم كل انجازاته ضد ممثلي ثقافة الآخر (غير الإقتصادية).??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية