الجدوى من العدوى: عن دلالة الخيال الكارثي

قلما كان خيال هوليوود سبّاقاً للواقع مثلما هي حال فيلم ستيفن سودربرغ الكارثي «عدوى» الذي خرج إلى الشاشات العالمية في عام 2011. ذلك أنه يبدو لمن يشاهد هذه الفيلم اليوم، في ضوء تجربتنا اليومية مع جائحة كوفيد ـ 19، أنه فيلمٌ أُخرِج تواً لتصوير الوباء الذي اجتاح كوكبنا منذ مطلع هذا العام، ولو بصورة مبالغ فيها على نحو أفلام الكوارث التي تنتجها هوليوود باستمرار. فوباء الفيلم أكثر فتكاً من فيروس كورونا الراهن ويخلق بالتالي حالة من الذعر تفوق ما خلقه الوباء الحقيقي الذي نتعرّض له، بل تصل إلى حد العنف المسلّح داخل الولايات المتحدة. بيد أن هذا الأمر الأخير الذي يتخطّى حالتنا الفعلية، إنما يتلاءم تماماً في الواقع مع كون ردّ الفعل الأول على الجائحة الراهنة في بلاد العمّ سام تجلّى بمشهد طوابير أمام محلات بيع الأسلحة.
أما عدا ذلك، فإن واقعية الفيلم لمدهشة حقاً: من أصل الفيروس المخمّن، إلى طريقة انتقال عدواه، إلى إجراءات الوقاية، لاسيما «التباعد الاجتماعي» وأقنعة الوجه بالطبع، إلى المؤتمرات الصحافية التي يلقي فيها الأخصائيون والمسؤولون تقارير عن تقدم الجائحة، إلى التسريع العظيم للمجهود البحثي الخاص بالفيروس وبإيجاد تلقيح فعّال ضده، إلى إخفاق بعض المسؤولين عن الالتزام بالقواعد الصارمة التي يفرضونها على الآخرين، إلى «الفيروس الآخر» الأسرع انتشاراً والذي يتمثل بالأخبار الكاذبة التي يبثّها بعض المسعورين عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فإن الرواية التي يحيكها الفيلم توحي بمعظمها بألفة غريبة ومدهشة عند مشاهدته اليوم.
أما الفارق الأهم بين رواية الفيلم والمحنة التي يجتازها عالمنا اليوم، فهو ما عجز خيال كاتبي السيناريو، سكوت بِرنز وسودربرغ نفسه، عن تصوّره: إنه وجود حكام ينكرون خطورة الجائحة ويتسببون هكذا بمفاقمة عدواها في بلدانهم وبمضاعفة عدد الضحايا فيها بالتالي. فلم يخطر ببال الكاتبين أن رئيس الدولة العالمية العظمى والأكثر تقدماً في مجال العلم والتكنولوجيا، الدولة التي يدور الفيلم بمعظمه على أراضيها كالمعتاد في إنتاج هوليوود، وهي الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع، سوف يكون من الضحالة الذهنية والتخلّف السياسي إلى حد التسبّب في بلوغ بلاده الرقم القياسي العالمي بعدد الإصابات والوفيات كما هي الحال اليوم، بدلاً من أن يكون قدوة لسائر البلدان في السيطرة على الجائحة.

الفارق الأهم بين رواية فيلم «عدوى» والمحنة التي يجتازها عالمنا اليوم، هو ما عجز خيال كاتبي السيناريو، عن تصوّره: إنه وجود حكام ينكرون خطورة الجائحة ويتسببون هكذا بمفاقمة عدواها في بلدانهم

والحقيقة أن الفيلم بذاته يعزّز كثيراً من مسؤولية حكام العالم، وبالأخص حكام الدول الأغنى والأكثر تقدماً في العلوم البيولوجية والتكنولوجيا الطبّية. ذلك أنه يبيّن بكل وضوح أنه كان بالإمكان توقّع مثل الجائحة الحالية. بل تكاثرت التوقعات والتحذيرات في هذا الشأن خلال السنوات المنصرمة، لاسيما إثر ظهور صنف جديد خطير من فيروسات كورونا، أحدث وباء «المتلازمة التنفّسية الحادة الوخيمة» (SARS) في عام 2002 ـ 2004، وبعد ذلك ظهور فيروس إنفلونزا جديد تسبب بجائحة «إنفلونزا الخنازير» (H1N1) لعام 2009. وقد استند كاتبا سيناريو «عدوى» إلى معلومات ونصائح حصلوا عليها من بعض علماء الوبائيات البارزين، فلم يكن فيلمهما من صنف «الخيال العلمي»، بل كان فيلماً كارثياً بسيناريو واقعي تماماً مستند إلى معلومات متوفّرة لدينا في زمننا هذا.
هذا وتزداد مسؤولية دونالد ترامب، وهو أسوأ الرؤساء الذين توالوا في البيت الأبيض منذ أن أصبح مقرّ الرئاسة الأمريكية في عام 1800، في ضوء تقرير داخلي صدر في مطلع عام 2017، قبل أسبوعين من تولّيه للرئاسة، عن القيادة العسكرية الشمالية للولايات المتحدة (USNORTHCOM) المنوط بها الدفاع عن الشمال الأمريكي برمّته. وقد تضمّن ذاك التقرير شرحاً مفصلاً لأصناف من الجائحات، وصفها بأنها قادمة باحتمال بالغ الارتفاع، وشرحاً مفصلاً للإجراءات الوقائية الضرورية، بما فيها التزوّد بشتى معدّات الوقاية الشخصية للسلك الطبّي والاستشفائي من الأبسط كأقنعة الوجه إلى الأكثر تعقيداً لمواجهة أخطر الحالات.
وقد استمرت الأجهزة المختصة المدنية والعسكرية في التحذير من جائحة قادمة في ظلّ رئاسة ترامب، غير أن هذا الأخير لم يبال إلى حد أنه ادّعى كاذباً عندما بدأت الجائحة تنتشر في الولايات المتحدة أن أحداً لم يكن بمقدوره توقّعها، فضلاً عن تصريحاته المتكررة أنها مرض بسيط لا تزيد خطورته عن خطورة الإنفلونزا، وأنها سوف تنتهي من تلقاء نفسها بما يشبه المعجزة (كذا). وإن ذلك لكافٍ بذاته ليجعل من احتمال إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للدولة العظمى في عالمنا كارثة عظمى للبشرية جمعاء، ناهيكم من الكوارث المتعددة التي يحدثها بسياستيه الداخلية والخارجية على حد سواء.

كاتب وأكاديمي من لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية