طرحت منذ أيام على صفحتي في فيسبوك سؤالا عن أيهما أحق بالاعتراف به، في الكتابة باللغة العربية: الأخطاء الشائعة المشهورة، أم التعابير الصحيحة، التي قد لا يعرفها أحد، ولا تستخدم إلا في المناهج الدراسية؟
وأوردت مثالا على ذلك، جملة: على الأقل، التي يقول خبراء اللغة العربية، أنها خطأ، والصحيح أن تكتب: في الأقل، وتلك الجملة عرفتها لأول مرة حين قرأت نصا عثرت عليها فيه، ولم أحبها أو أستسغ نطقها وكتابتها على الإطلاق.
كانت المداخلات داعمة لوجهة نظري، في معظمها، وتتلخص في أن الكتابة الإبداعية، غير مشغولة بالضرورة بما هو صحيح أو خطأ، بقدر ما هي مشغولة بالإبداع نفسه، الإبداع المتمثل في اختراع عوالم وتطويرها، ورصفها بالمعرفة، مع ضرورة وجود المتعة في النصوص، التي لولاها لما وصلت إلينا أفكار كثيرة، فالكاتب في رأيي مطالب بجانب اختراع العوالم، وبث الأفكار، أن يعثر على الإسلوب الملائم والسلس لجذب القارئ، وأعتقد أن ثمة روايات عظيمة، لم تجد قارئها بسبب خشونة أسلوبها، واستخدام الكاتب لأدوات لغوية جارحة، ساهمت في هجر القارئ لنصه مبكرا، من دون أن يكمله، بينما نجد على العكس أعمالا تعرضت لمواضيع صعبة مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس، شدت القارئ بأسلوبها، وأعطته المعرفة المطلوبة بصورة رائعة.
ولعل أفضل مثال على ما ذكرت، رواية «عالم صوفي» للنرويجي جوستاين جاردنر، الصادرة لأول مرة عام 1991، ونقلت إلى أكثر من خمسين لغة عالمية، وساهمت دار المنى في نقلها للعربية. إنها رواية عن الفلسفة، لكن يصبح تذوق الفلسفة أمرا سهلا حين تدمج في عوالم طفلة.
وعندنا في العربية قلت مرة أن كتابة الصحراء، وأساطيرها، وما تخبئه من خوف وسحر، وتقاليد لا يعرفها أحد، لم تكن ليكون تذوقها بهذه السلاسة، لولا كتابة إبراهيم الكوني، وإبراهــيم من القلائل الذين عثروا على أسلوبهم باكرا، وأمتعونا بذلك الأسلوب.
الكاتب في رأيي مطالب بجانب اختراع العوالم، وبث الأفكار، أن يعثر على الإسلوب الملائم والسلس لجذب القارئ، وأعتقد أن ثمة روايات عظيمة، لم تجد قارئها بسبب خشونة أسلوبها، واستخدام الكاتب لأدوات لغوية جارحة، ساهمت في هجر القارئ لنصه مبكرا.
أعود لموضوعي، عن استخدام اللغة الشائعة، وحقيقة ليس مطلوبا من الكاتب أن يلم بكل شاردة وواردة في اللغة التي يكتب بها، ونعرف أن معظم المبدعين هم أصلا ليسوا تلاميذ أو أساتذة لغة، وإنما قدموا للإبداع من مهن عديدة لا علاقة لها بما يكتبون، أو لنقل إنهم كانوا يكتبون منذ الصغر، والتحقوا بدراسات بعيدة عن الكتابة، وظل ما يقدمونه في المجال الإبداعي، مجرد إشباع لهواية، من الصعب التخلي عنها، ومن الصعب ممارستها وحدها، لأنه لا عائد مادي، يأتي منها، ويمكن الاعتماد عليه في الحياة اليومية، خاصة في البلاد العربية، حيث يظل الكاتب مجرد كاتب، بلا ترقية، أي بلا أجر من استثمار كتابته.
وكنت مرة قبل أن ألج بكثافة في عالم الكتابة، تعرفت إلى موظف في دار نشر أوروبية كبرى، أبدى اهتماما بكتابين لي، ووعد بترجمتهما للإنكليزية، لكن حين قدمهما لدار نشره، كان الرد الذي قرأته: نحن مستثمرون في مجال الكتابة، وهذا الكاتب قد يكون جيدا، لكن ليس استثمارا جيدا. وفي كتابتي للنصوص الروائية، أو حتى للشهادات الإبداعية، والمقالات التي التزم بها مع الصحف والمجلات، لا بد تعثر على أخطاء ما، أخطاء قد تكون لغوية أو نحوية، أو من تلك التي أشرت إليها بأنها أخطاء شائعة، لن تجرح تذوق أحد، وفي الحقيقة لن تلفت نظر أحد أبدا، إذا لم يفعل أحد المتربصين بالنص ذلك، مثل أن تكتب: نفس الشيء، بدلا من: الشيء نفسه، وأمثلة أخرى عديدة
أنا أقبل التصحيح اللغوي بلا شك، وأقبل التحرير إن كان ثمة محرر متمكن لا يشوه العمل أو يتخطى حدود التفاعل المساعد، إلى محاولة التأليف، لكن غالبا لن أقبل أن يعد أحد الأخطاء الشائعة، التي أستخدمها متعمدا، ويكتبها في مقال عن نصي، يفترض أنه مقال نقدي، واهما أنه يهز مكانة لدى القراء، لم أعثر عليها مصادفة، وإنما نتاج سنوات طويلة من القراءة، والمحاولات الجادة للعثور على أسلوب كتابي.
ولعل وجود أساتذة اللغة العربية، وسط جمهور تلقي أمامه شهادة إبداعية، أو تقرأ شذرات من تجربتك، يعقد بعض المسائل، حيث يشعر ذلك المعلم للغة بخيرها وشرها، بأنه جرح باستخدامك لتعابير، لن تروق له أو لمنهجه، ويحاول جاهدا أن يصلك استياؤه، وتلك مسألة تعودت عليها، ولا أهتم بها كثيرا، وأذكر أنني لاحظت مرة أثناء حديثي في إحدى الجامعات عن رواية «العطر الفرنسي»، أمام الطلاب وأساتذتهم في قسم اللغة العربية، أن أحد الأساتذة انتفض فجأة حين استخدمت تعبيرا شائعا، وحين انتهيت أسرع إليّ وطلب أن أعطيه شهادتي المكتوبة، لكن في الحقيقة، لم أعطه لها، قلت له بأنها مسودة، سأقوم بتصحيحها وإرسالها له، لكن ذلك لم يحدث.
ومن الأشياء التي أرقتني مؤخرا، أن عددا من أساتذة اللغة العربية والباحثين فيها، كانوا يعدون تقريرا عن استخدام اللغة في النصوص الإبداعية، وغير ذلك من ضروب الاستخدام، وكلفوني بكتابة مقال طويل بعض الشيء، في هذا الشأن. وقد قمت بالكتابة كما أكتب دائما، لكن يظل هاجس تدقيق المقال لغويا يلازمني، وأن تقريرا عن اللغة العربية لا بد يحتفي بها نظيفة من الشائع والمستخدم.
عموما نحن نكتب، ونراجع ما نكتب، ونلتزم بلغتنا بقدر ما نعرف ونستطيع، وشخصيا أؤمن كما قلت بالاختصاصات، فالمختص أدرى من غير المختص بكل تأكيد.
٭ كاتب سوداني
المشكل في الأساس هو إختزال اللغة في ما يعرف ب” الجملة”. وهذا الإختزال هو الذي يجعل من الجملة مقياسا وأساسا لتصحيح النص. مع العلم أن الجملة كما تم التقعيد لها في كتب النحو ليست سوى إمكانية واحدة من بين عشرات الآلاف من الإمكانيات التي تمنحها اللغة للتعبير. ولذلك لاتزال الرواية مثلا أسيرة كتب النحو بعدما أجهز هذا الأخير على الشعر وأجلاه هيكلا!
ليست الرواية هي المتن الحكائي، ذلك أن دماغ أي شخص يحوي مئات الحكايات. الرواية هي الأسلوب بالمعنى الحرفي للكلمة، أي طريقة التعبير التي لا يمكن بتاتا إيجاد شبيه لها. هذا هو الإكتشاف الأهم الذي قام به فلوبير و الذي مهد لظهور رواية سيلين:” رحلة إلى أقاصي الليل”.
ليس مبررا للمبدع أن يغلط في النحو أو اللغة لأنه ليس من ذوي الاختصاص في اللغة العربية، فكما يمتلك أدواته الفنية لكي يبدع نصه عليه أن يمتلك اللغة لأنها أهم عنصر في إنتاج أي نص، ولا أحد مع التشدد في اصطياد هفوات المؤلفين وكأنهم تلاميذ بحاجة إلى تصويب وتوجيه.
التدقيق اللغوي لا يضر الكاتب أو ينتقص من قدره لكنه يفيد القاريء و يحافظ على اللغة و يبث فيها الحياة. شكرا جزيلا على المعلومة الجديدة، “في الأقل” بدلا من “على الأقل”، تبدو منطقية، نحن نقول “في أقل تقدير” و لا نقول”على أقل تقدير”. لك منا الكثير من التقدير.