الأنظمة ملتزمة بهوان شأننا بين الأمم!

رغم أن الأخبار الزائفة نقمة كبرى من نقم شبكات التواصل، التي هي بمثابة لعبة بلا قواعد أو سوق بلا معايير ولا ضوابط، فقد كنا نأمل لو أن الخبر الذي راج قبل أيام عن زيارة سيؤديها رئيس الجزائر عبد المجيد تبون إلى المغرب كان خبرا صحيحا. ذلك أن مما جعل الخبر قابلا للتصديق أنه قد صدرت عن الرئيس الجزائري أخيرا إشارات إيجابية عن استعداد (مشروط) للمصالحة. وبما أن هذه الإشارات أتت بالفرنسية في سياق حوار مع قناة فرنسية، وليس مع قناة مغربية أو عربية، فقد تجدد لدينا الشعور المحبط بأن أبسط الحقائق في إقليمنا لم تعد مرئية أو قابلة للرؤية. لم نعد نستطيع رؤية البسائط. أوّلا، لفرط بساطتها (!) وثانيا، لفرط طول النفق المظلم الذي تورط فيه المغرب العربي منذ ستة عقود. إذ إن في أساس إشكالية العلاقة المغاربية-الفرنسية جذرين تاريخيين تعودنا أن نركز على أحدهما مع إغفال شبه كلي للثاني. فلطالما ركزنا، ولا نزال، على سوء التفاهم التاريخي أو الجانب المسموم في المواريث الاستعمارية التي أمعن المستعمر السابق في تجاهلها أو إنكارها والتهوين من شأنها، مثلما حصل عام 2005 في مشروع القرار البرلماني الداعي للإشادة بمآثر الاستعمار، ومثلما يبدو دوما من عدم اطلاع عموم الأوروبيين على الحقائق المتعقلة بالجرائم والفظائع التي ارتكبها الغزاة المستعمرون من أبناء جلدتهم والاستعماريون الإيديولوجيون من أبناء نخبتهم السياسية والثقافية.
وهذا التركيز على المواريث الاستعمارية مفهوم بطبيعة الحال. إلا أن من غير المفهوم أن يتم إغفال مسؤوليتنا نحن عما آل إليه الأمر من هوان شأننا بين الأمم جميعا وانعدام وزننا أمام المستعمر القديم خصوصا. إذ يكفي لتصوير خطورة هذا الإغفال قلب الصورة، أي نقضها، على نحو ما هو دارج في سيناريوهات «التاريخ المضاد للوقائع».
فلنفترض أن دول المغرب الكبير من ليبيا إلى موريتانيا اتجهت تدريجيا وسلميا، بعد الاستقلال، نحو أنظمة حكم ديمقراطية معبرة عن الإرادة الشعبية وضامنة للحريات المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ولنفترض أنها تعاهدت وتعاقدت (مثلما فعلت ست دول من أوروبا الغربية في معاهدة روما عام 1957) على العمل المنهجي التدريجي على تحقيق التكامل الزراعي والصناعي المفضي إلى الاندماج الاقتصادي الكامل، بحيث نشأت بينها سوق مشتركة ضامنة لحرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال والسلع والخدمات دون أي عائق جمركي أو إداري.

لو أن أنظمة الحكم حققت الديمقراطية والتنمية التي كانت الشعوب تعتقد أنها شروط ملازمة لمعنى الاستقلال … لو أن الأنظمة استطاعت الوفاء بمعنى الاستقلال والاضطلاع بمسؤولياته، فهل كان سيبقى أي مجال للمواريث الاستعمارية

ثم لنفترض أن كل قيادة من القيادات السياسية في الدول الخمس تفطنت إلى ضعف موقفها التفاوضي الانفرادي فصارت لا تقبل التفاوض مع الدول الأجنبية، وخصوصا دول الجوار الأوروبي، إلا باعتبارها كتلة مغاربية واحدة معبرة عن موقف واحد. أن تكون الحال هكذا يعني بالضرورة المنطقية أن لا وجود لظاهرة الهجرة المغاربية في أوروبا لأن جميع أبناء المغرب الكبير، سواء من العمال غير المؤهلين أم من الكفاءات الصناعية والجامعية والعلمية، قد صاروا يعملون في وظائف ضامنة للعيش الكريم في بلادهم المغاربية الواسعة، بحيث لم يعد أحد منهم مضطرا للهجرة الاقتصادية (ناهيك عن اللجوء السياسي) في البلدان الأوروبية. والنتيجة أنه لم يعد هنالك جاليات مغاربية في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا، بل غاية ما في الأمر أن المغاربة يذهبون لهذه البلدان للسياحة والاصطياف (تماما مثلما يفعل اليوم مواطنو بلدان الخليج).
كما أن ما يستتبعه هذا الوضع (الديمقراطية السياسية مع التنمية الاقتصادية والتكامل الإقليمي) هو اتخاذ البلدان الخمسة موقفا شعبيا ورسميا يتمثل في دعوة جميع اليهود ذوي الأصل المغاربي إلى العودة إلى بلدانهم معززين مكرمين بعد التحلل من جنسية دولة الاحتلال، إسهاما بذلك في الفضح العملي لأساطير الصهيونية ومساهمة في إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه بحصر الصراع بين أهل الأرض من العرب وبين الكولونياليين من الأوروبيين والروس والأمريكان.
لو أن أنظمة الحكم حققت شروط الكرامة هذه (أي الديمقراطية والتنمية والتكامل الإقليمي) التي كانت الشعوب تعتقد أنها شروط ملازمة لمعنى الاستقلال ملازمة دلالية، بل ولزوم ضرورة تاريخية… لو أن الأنظمة استطاعت الوفاء بمعنى الاستقلال والاضطلاع بمسؤولياته، فهل كان سيبقى أي مجال للمواريث الاستعمارية، والعنصرية الأوروبية، والإسلاموفوبيا العالمية والتدخلات، بل التوغلات، الشرقية والغربية في شؤوننا؟ بل هل كان سيبقى أصلا أي موجب للانتفاضات الشعبية والحروب الأهلية ولمخاطر عودة الاحتلال والتقسيم؟

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الله ب.:

    مقال هادف رصين يستحق القراءة والتأمل والتقدير.

إشترك في قائمتنا البريدية