مثلت وفاة الفريق الأول الركن هاشم سلطان، آخر وزير دفاع في الدولة العراقية قبل الاحتلال الأمريكي، مشهدا آخر من مشاهد انقسام الذاكرة العراقية، ومحطة أخرى لكشف سرديات الطوائف عن نفسها، بعيدا عن شعارات الوطنية ومشتقاتها!
يصدر التحالف السني الأكبر في مجلس النواب العراقي، ويضم ما يزيد عن 35 نائبا على أكثر تقدير (بسبب ميوعة حركة النواب السنة، وتحولاتهم البندولية، لا احد يستطيع أن يعرف عدد أعضاء أي كتلة سنية): نعيا للفريق الأول الركن سلطان هاشم أحمد والذي وصفه بكونه «عنوانا للعسكرية العراقية الوطنية والمهنية الخالصة». فيما يصدر رئيس تحالف دولة القانون «الشيعي» بيانا مضادا يبارك فيه ما يسميه: «هلاك أحد رموز البعث المجرم الذي عاث في الأرض فسادا وساند الطاغية على الظلم والاضطهاد»، بل يصفه البيان في موضع آخر بـ «المجرم الطاغية»! ويصدر رئيس لجنة الشهداء والضحايا والسجناء السياسيين البرلمانية، وهو ينتمي إلى تحالف دولة القانون أيضا، بيانا يقول فيه: «مجرم آخر من مجرمي البعث سقط ذليلا خاسئا ملتحقا برأس البعث إلى مزبلة التاريخ بحكم عدالة الله تلاحقه لعنة العراقيين الشرفاء»!
ولم يصدر أي بيان رسمي عن الحزبين الكرديين الرئيسيين في العراق، على الرغم من ان الرجل قد حكم عليه بالإعدام بسبب مشاركته في عمليات الانفال التي جرت في العام 1988، لكن بعض النواب الكرد، فضلا عن بعض الشخصيات الكردية، قد أعلنوا صراحة عن موقف «متزمت» من الرجل، فقد كتب أحد نواب حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أن «جعل سلطان هاشم المجرم بطلا من قبل بعض النواب والسياسيين والمسؤولين، والتحدث عن ماضيه بفخر واعتزاز ورثائه بالقصائد والكتابات… لن يبقي معنى للضحايا…». فيما يكتب نائبان كرديان آخران عن الاتحاد الوطني وحركة التغيير بيانا يدينان فيه محاولة «إبراز صورته كبطل»، ويريان فيها «استهانة واستخفافا بدماء الأنفال واهاليهم».
وكانت المفارقة اللافتة، أن أحد النواب العرب الممثلين للحزب الديمقراطي الكردستاني في البرلمان العراقي (الحزب الذي يضم عضوين عربيين على قوائم الحزب في محافظة نينوى)، كتبت تغريدة تعزي فيها: «المؤسسة العسكرية وعشائر طي خاصة، والعراق عامة في هذا المصاب الجلل»! ولكنها اضطرت إلى حذف هذه التغريدة بعد ذلك!
ما جرى ويجري من صراع حول سلطان هاشم يكشف عمق تشظي الذاكرة وانقسامها في العراق، ولا أحد يسعى لفهم السياق التاريخي والسياسي الذي حكم الأحداث. فالأنفال على سبيل المثال، مثلت جريمة ضد الإنسانية وفق كل المقاييس ابتداء من عمليات النقل القسري للسكان، ومرورا بالإخفاء القسري، وتدمير للممتلكات، ثم القتل خارج إطار القانون. والمشاركون فيها كثر، ولكن المجتمع السني على قناعة كاملة بأن ما جرى بعد عام 2003 لم يكن محاكمة للنظام، او محاكمة للأفراد على جرائم ارتكبوها، بل كان محاكمة لحقبة الحكم «السنية» في العراق، وبصيغة الانتقام وليس بصيغة تحقيق العدالة. بدليل أن لا أحد من الفرسان/ الجحوش قد تمت محاكمته، والجميع يعلم تمام العلم انهم كانوا العنصر الأقسى والأفظع في تنفيذ جرائم الانفال، لأسباب عشائرية، وانتقامية، أو في أخف التقديرات كانت لإثبات الولاء مدفوع الثمن! ومع ذلك لم يقل أحد أن هذا «العفو« عنهم «لم يبق معنى للضحايا»، أو أن هذا العفو كان «استهانة واستخفافا بدماء الأنفال واهاليهم»!
لا أحد من الفرسان قد تمت محاكمته، والجميع يعلم تمام العلم انهم كانوا العنصر الأقسى والأفظع في تنفيذ جرائم الأنفال، لأسباب عشائرية، وانتقامية، أو في أخف التقديرات كانت لإثبات الولاء مدفوع الثمن
لقد تم العفو عن الفرسان/ الجحوش الذين شاركوا في جريمة الأنفال، وكانوا القوة الضاربة فيها، ولم يسأل أحد عن الجرائم التي ارتكبوها، أو التي شاركوا فيها، وكان عددهم يربو على ال 150 ألفا، بضمنهم عشائر وشيوخها، واعتبروا ما قاموا به ضرورة سياسية عام 1991، ومن دون هذا العفو كان الحزبان الكرديان سيضطران إلى الدخول في حرب أهلية، وكان هذا سيقوض المكاسب التي حصلوا عليها حينها. استحضار التاريخ والمحاسبة في العراق لم يكن هدفها متعلقا بالعدالة، أو بضرورة ملاحقة مرتكبي الجرائم، مطلقا! بل كان دائما من أجل الانتقام؛ لأن مفهوم العدالة لا يتجزأ، ولا يمكن للعدالة أن تتأثر بالقومية أو الدين و المذهب، وبالتالي عندما تكون «العدالة» انتقائية، ومتحيزة، فهي ليست «عدالة بكل تأكيد!
لا يستطيع احد ان ينكر ان المجتمع السني في العراق كان متماهيا، شاء أم أبى، مع الدولة ذات الهوية السنية، وبسبب طبيعة «الطائفية السياسية» المضادة التي حكمت العراق بعد نيسان 2003، والتي ساهم الأمريكيون فيها بغبائهم على الأقل من خلال قرار قانون المحكمة الجنائية المركزية رقم 13 لسنة 2004 الذي أصدره بريمر الذي قضى بـ(أن يكون قضاة المحكمة في سنوات حياتهم الماضية كانوا معارضين لحزب البعث!)، أصبحت هناك قناعة شبه ثابتة لدى هذا المجتمع السني بأن المحاكمات التي جرت في المحكمة الجنائية المركزية، إنما كانت موجهة ضدهم، ولم يستطع أن يقتنع بان هذه المحاكمات كانت تهدف إلى تحقيق «العدالة» في الجرائم التي ارتكبت في عهد البعث. لم يستطيعوا ان يفهموا لماذا كان قضاة المحكمة الجنائية كردا وشيعة حصرا! ولماذا كان المدعون العامون شيعة حصرا! وكانوا على يقين بان إعدام صدام حسين في صبيحة العيد الأضحى وليس في أي يوم آخر، إنما كان لأسباب طائفية بحت، لا علاقة لها بالعدالة وإنفاذها (لا يجيز قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي في المادة 290 تنفيذ عقوبة الإعدام في أيام الأعياد الخاصة بديانة المحكوم عليه)! ولماذا يعدم صدام حسين عن تهمة فيها جدل، وهي محاولة اغتياله، وليس عن تهم حقيقية لا يمكن لاحد الجدال فيها؟ ليبدو الأمر وكأنه ثأر بين حزب الدعوة وحزب البعث/ صدام حسين بدلا من الإفادة من الفرصة التاريخية لمحاكمة نظام حكم على ممارساته طوال 35 عاما، بل انهم تعمدوا تفريق القضايا بطريقة مقصودة، لتتحول المحاكمات إلى مجرد انتقام وثأر؟ لقد منعنا السياق الذي جرت فيه المحاكمات، وظروفها، ومماحكاتها، والتهريج الذي جرى فيها من قبل الجميع، من الإفادة من هذه محاكمات لإقناع المجتمع السني، قبل غيره، بأن «نظامهم» قد أرتكب جرائم بشعة عن سابق قصد وتصميم، كان بإمكانه تفاديها.
وكان السؤال الذي لم يجب عنه أحد، لماذا تمت المحاكمات على أساس هوية الفاعل وليس على أساس الفعل؟ ولماذا تم الغاء قانون المحكمة الجنائية المركزية رقم 13 لسنة 2004، الذي كان في مادته 18 يتحدث عن ولاية المحكمة على جرائم الإرهاب، والجريمة المنظمة، والفساد الحكومي، وأعمال الغرض منها زعزعة استقرار المؤسسات والعمليات الديمقراطية، واعمال العنف التي تقع بسبب الانتماء العرقي او القومي أو الاثني أو الديني، من دون أي تقييد او تحديد، واستعانوا بالقانون رقم 10 لسنة 2005 الذي أنتجه العراقيون هذه المرة (هيمن السياسيون الشيعة والكرد على الجمعية الوطنية التي جرت في كانون الثاني/ يناير 2005 بسبب مقاطعة السنة شبه الجماعية لهذه الانتخابات) أمام تقييد صريح هو الجرائم المرتكبة «من تاريخ 17 تموز/ يوليو 1968 ولغاية 1 مايو/ أيار 2003» حصرا أولا، فلم يقاض هذا القانون سوى النظام السابق ومسؤوليه دون توجيه أي اتهام لأي جهة أخرى! على الرغم من أن الجميع كان شريكا في العنف، وشريكا في جرائم موصوفة!
بالتأكيد لم يكن هدف محاكمات نورنبيرغ، أو محاكمات المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى (محكمة جرائم الحرب بطوكيو)، بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق العدالة فيما يتعلق بجرائم الحرب، او الجرائم الأخرى، لان الجميع ارتكب هذه الجرائم، بل كانت عدالة المنتصرين ضد المهزومين! ولكن إذا كان هذا مفهوما، ومسوغا، في محاكمات ذات طبيعة دولية، فان نسخها إلى محكمة محلية، بين منتصرين ومهزومين محليين، لا يمكن أن يكون سوى تكريس للانقسام والانتقام والصراع معا!
نجد هذا التشظي في الذاكرة وانقسامها، والسرديات المتضادة في كل مفترق، وكل يروي الوقائع بانتقائية، تبعا لموقعه، وتحيزاته، وهو يكرس الانقسام الهوياتي داخل العراق، خاصة عندما تتبنى السلطة/ الدولة ذاكرة وسردا أحاديا، دون ان ينتبه الجميع إلى التبعات الكارثية لذلك.
كاتب عراقي
أنا ضد حزب البعث وإجرامه, لكنه حزب وطني وليس عميل لإيران كما هو حال معظم الأحزاب بالعراق الآن!
لقد تيقن العراقيون الآن بأن البعثيين أشرف ألف مرة من هؤلاء العملاء الفاسدين!! ولا حول ولا قوة الا بالله