قبل يومين بعث أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية ألان سكاد رسالة إلى «لندن إيفننغ ستاندرد» ينتقد فيها القول الذي نسبته الجريدة إلى نيشا بارتي، إحدى المنتجات في تلفزيون البي بي سي، بأن «بريطانيا قسّمت الهند إلى بلدين». قال سكاد إن «الذي أراه هو أن بريطانيا ما سعت البتة إلى تقسيم الهند، بل إن اللورد ماونتباتن قد بذل كل ما في وسعه لبقاء الهند موحدة». فردت عليه محررة صفحة المنوعات ريتشيل ماكغراث بأن «ما لا سبيل إلى إنكاره هو أن جلاء بريطانيا عن الهند قد خلّف في أعقابه هدما ودمارا».
خلفية هذا الحوار معروفة: إنها النقاشات التي أخذت تحتدم في البلدان الغربية حول مواريث الاستعمار والعبودية منذ أن انطلقت شرارة حملات مناهضة العنصرية في أعقاب جرائم العنف البوليسي ضد السود في أمريكا. أما مناسبة الحوار فهي أن البي بي سي ستبث بداية من الأحد مسلسلا ضخما يستمد أحداثه من رواية فيكرام ساذ «صبي مناسب» التي نشرت عام 1993 والتي تعدّ من أطول الروايات في آداب اللغة الانكليزية (1349 صفحة). وهي تروي جوانب من تاريخ الهند السياسي والاجتماعي عام 1951 عبر تتبّع مصائر أربع عائلات. وأميز ما يميز المسلسل البريطاني الجديد أن مخرجه هندي وأن جميع ممثليه الـ110 هم من الهنود، إقلاعا بذلك عن عادات استعلائية كانت تسند للبريطانيين البيض الأدوار المحورية بحيث لا يكون لأهالي المستعمرات السابقة إلا نصيب التكميل والرفد الثانوي.
ولكن إذا كانت البي بي سي تجتهد بما تستطيع لمحاولة مجاراة روح العصر الذي لم يعد يقبل غض الطرف عن التنميطات العنصرية والمغالطات التاريخية، فإن وزارة الداخلية البريطانية لا تزال تحنّ إلى الأعصار الغابرة. والدليل أن ما لا يقل عن 181 مؤرخا قد نشروا في دورية الجمعية التاريخية البريطانية رسالة مفتوحة ينتقدون فيها كتيّب «العيش في المملكة المتحدة» الذي يتضمن معلومات تشترط وزارة الداخلية على كل مترشح للحصول على الجنسية البريطانية أن يتلقّنها استعدادا لاختبارات الترشح.
النقاشات التي أخذت تحتدم في البلدان الغربية حول مواريث الاستعمار والعبودية منذ أن انطلقت شرارة حملات مناهضة العنصرية في أعقاب جرائم العنف البوليسي ضد السود في أمريكا
وتتركز انتقادات المؤرخين على ما يتضمنه الكتيّب من «معلومات خاطئة يمكن دحضها بالأدلة». من ذلك أن الكتيّب يقلل من دور بريطانيا في تجارة الرقيق العالمية فيقول: «بينما كان الرق محرما قانونا داخل بريطانيا، فإنه قد صار بحلول القرن 18 صناعة مكتملة الأركان في ما وراء البحار». ولكن المؤرخين يردّون بأنه قد كان في بريطانيا في القرن 18 كثير من الرقيق المملوكين، ويشيرون إلى أن الكتيّب حافل بالتواريخ والأرقام ولكنه لا يذكر عدد من سخّروا للرق ونقلوا في السفن البريطانية (أكثر من ثلاثة ملايين فرد)، ولا يتطرق لمسألة موت كثير منهم (بسبب سوء التغذية وقسوة المعاملة).
كما يذكر الكتيّب أن النصف الثاني من القرن العشرين «شهد، في الأغلب، انتقالا منظما من الامبراطورية إلى الكمنولث، وذلك بمنح البلدان المعنية استقلالها». ولكن المؤرخين يصححون بأن مسار «تصفية الاستعمار لم يكن مسارا منظما بل عنيفا في معظم الحالات»، وينبهون إلى أن التاريخ الرسمي الذي يتضمنه الكتيّب يشيع الرأي المضلل بأن الامبراطورية انتهت لمجرد أن البريطانيين قرروا ذلك من تلقاء أنفسهم، حيث أنه لا يذكر شيئا عن الحركات والانتفاضات الوطنية سعيا للاستقلال. ورغم أن الكتيّب يتضمن تراجم أكثر من مائتي شخصية فإنه ليس بينها إلا فرد واحد من المستعمرات، هو البنغالي شيخ دين محمد الذي شارك عام 1810 في فتح أول مطعم «كاري» في انكلترا!
والحق أن الوزارة ردت بأن الكتيّب يبقى قيد المراجعة وأنها ستأخذ جميع الملاحظات في الحسبان.
هذا، وممّا اشتهر به البريطانيون القدرة الفائقة على ابتداع «اليوفميزم»، أي تلك التعابير الملطّفة التي تخفف من شأن الواقع (خصوصا إذا كان سلبيا) وتنزل به في سلّم دقة التعبير وأمانة التصوير درجات ودرجات. وقد أجاد بعض النقاد لمّا اختاروا تعريب اليوفميزم بـ«المبالغة المعكوسة». فهي بالفعل مبالغة باتجاه الأسفل تقليلا وتهوينا (بعكس المبالغة المعتادة التي تتجه نحو الأعلى تكثيرا وتعظيما). وحسبك أن تنظر إلى هؤلاء القوم الطاعنين في البيروقراطية كيف يعبرون عن المسار التاريخي الأليم المرير الذي يمثله كفاح الشعوب في إفريقيا وآسيا من أجل التحرر من الاستعمار البريطاني: إنه مجرد انتقال «من الامبراطورية إلى الكمنولث». مجرد انتقال من عاطفة الأمومة إلى آصرة الأخوّة. تطور طبيعي سلس من حضن أمومة القوة الاستعمارية الحنون (لمّا كانت قادرة على فرض إرادتها بالقهر) إلى مرابع أخوّة أمم الكمنولث الدافئة (بعد إذ صارت رابطة اللغة الانكليزية أمرا ثقافيا واقعا بحكم تراكم مظالم التاريخ).
كاتب تونسي
الإستعمار الغربي تحول من استعمار مباشر وخشن Hard الى إستعمار غير مباشر وناعم Soft منذ نحو سبعة عقود والناس نيام، لكن الحلول الاقتصادية للإستعمار الناعم لم تناسب العالم العربي فاستيقظت الشعوب، فأين الحل؟