«بيت ياسين» و«عبد العزيز مخيون»… أباجورة وكتاب يتلاشى!

ما بين ضوء الأباجورة ومعلومات الكتاب تنشأ حكاية «المشخصاتي» وهو يعارك من أجل أن يكون هو، لا غيره، صوتا لا تضعفه بحة ولا يقف في وجهه عائق، واقع فني يستمسك بعروة الشاعر، فتضاء مصابيح الخشبة التي تتكلم «عربي» والإمكانات الهائلة في التعبير عن الأسماء، وهي تدل على الأشياء التي تشبهها.
للإبداع كلمه حين يقرر أن يندمج في الحياة، هو بالأصل مندمج فيها، لكنه حين يعبر عن هذا الاندماج يصبح حالة جماهيرية، تسكب تجلياتها على الأشياء فتصبح كيانا يتعلق بمنطق الشعر، الذي هو الحياة في عفويتها وبساطتها وصراحتها، يمكن أن يكون ذلك ما لمسته في الفنان عبد العزيز مخيون، وهو في ضيافة الشاعر والقاص والروائي المغربي عدنان ياسين في برنامج «بيت ياسين».
تجربة في الإعلام الثقافي العربي، جاءت بعد برنامج «مشارف»، ولازمته الشهيرة «دامت لكم مسرة القراءة وصداقة الكتاب». ينفتح عدنان ياسين كشاعر تخلخله دهشة الكلام، لتلقي به في أسرار حركة الناس العاديين الذين يرافقون الحياة كأصدقاء للفكرة والموقف، يكشف في أعماقهم عن ذلك الذي قد يكونون نسوه، فيشد بأيديهم إليه ليحاوروه ويسألوه ويحفروا بذاكرتهم في حقيقته ومآلاته.
متابعة المقابلة مع عبد العزيز مخيون، لم تكن فقط للتعرف على هذه الشخصية المتواضعة والفنانة، ولكن المتابعة في نهاية البرنامج وقفت عند نموذج الممثل المثقف، الملتزم بقضية، والفاعل المجتمعي المتحصل من كل حقل حياتي على شيء، وهو ما جعل الحياة العربية في لحظة ما تحدد عناصر نهضتها، وتجمع المفردات المفتاحية لاستراتيجية بناء شخصية عربية بناءة، ضمن مشروع ثقافي مجتمعي، لا شك في أن أيديولوجية الديكتاتور كسرت نمط الانطلاق نحو فضاء حر وديمقراطي.
تلك كانت العودة إلى ذاكرة الفن الجميل، أو التمثيل الملتزم، والالتزام هنا معنى خارج الأيديولوجيا، يرتبط بفكرة الإنسان واقعا، المناضل ولو كلفه ذلك ما يكلف الأحرار من ضريبة الوقوف على الهامش ومعارضة المركز، وهو ما قام به مخيون إثر تخرجه من معهد المسرح، إذ عاد إلى القرية ليجعل المسرح وليد بيئته، بعدما انتشرت في الستينيات أفكار «نحو مسرح مصري»، وبعد أن قرأ ثلاث مقالات في الموضوع لعلي الراعي ويوسف إدريس في مجلة «الكاتب».
عبد العزيز مخيون بوجهه الذي احتفظت به ذاكرة الطفولة، وجه لا تتشكل قسماته سوى بالقدر التي تقود به إلى هوية واحدة هي الفنان الملتزم، وجه مصري عريق، قمحي، دمغته شمس مصر بميسمها، فاكتسب لون عراقتها وهوية أرضها، ولذلك ينفتح وجهه على ابتسامة معبرة ومدوية، ترسم بتأن وصعوبة، قد يلمسها من ينظر في وجهه بدقة، ربما لأن الصدق الفني هو ما يسير بهذا الكائن الجمالي في دروب الواقع، فابتسامته دليل صرامته، في مواجهة ما لا يعتقده مسايرا للمبدأ والفكرة الغابرين في تاريخ الكرامة والحرية والعدل.
ليس عبد العزيز مخيون إمعة يعكس توجهات سلطة ما، هو يعكس صورة المثقف العضوي، جوهر الفنان الذي نُسجت خيوط لحمته من الموهبة والتجربة، فقط نذكر أنه كان صديق الشاعر المصري أمل دنقل، وكان يقرأ بعض منتخبات أشعاره في الإذاعة، وجمعتهما صداقة قوية، وكان أمل يبيت عند مخيون، ويروي أنه كان كثير القراءة، وحين ترتخي يداه بالنوم يسقط الكتاب، فيأتي عبد العزيز ليطفئ الأباجورة.

لم يكن مجرد قول، حين ذكر أن من أولوياته النص، فنجده يوثق لتجربته في مسرح الفلاحين بكتاب يحمل عنوان «يوميات مخرج مسرحي في قرية مصرية»، وكان الهدف منه هو تسجيل «يوميات العمل»، وكان متاُثرا فيه بكتاب توفيق الحكيم: «يوميات نائب في الأرياف».

كان صديقا أيضا للمعماري العالمي صاحب «عمارة الفقراء» حسن فتحي، وتأثر به في صداقته للبيئة، يذكر أن حسن فتحي كان يبحث عن عمارة أصيلة نابعة من البيئة، وعبد العزيز مخيون كان يبحث عن صيغة مسرحية طالعة من التاريخ والعلاقات الاجتماعية السائدة، في تجربته «مسرح الفلاحين»، وحينما سأله عن كيفية بناء بيت من البيئة قال له: «حيث موطئ قدمك، التقط المادة التي تبني بها». التقى مرتين الموسيقار محمد عبد الوهاب، مرة حين كان مازال طالبا في المعهد، إذ حضر عبد الوهاب ليشهد مسرحية لمصطفى محمود، ويقوم بالأدوار فيها الطلبة، ويقول مخيون إن عبد الوهاب حضر إكراما لمصطفى محمود، الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة، والمعروف أن عبد الوهاب كان نادر الظهور في الأوساط العامة، ومثل هذه المناسبات، ومرة أخرى حين التقى به ليستفسره عن دور يمثل فيه شخصية محمد عبد الوهاب، وكان في مسلسل «شوقي».
يضعنا نموذج التوهج الثقافي لدى عبد العزيز مخيون أمام صورة الممثل القادم من الطبقة الطليعية المتطلعة إلى أنموذج المجتمع المتحرك نحو الخصوصية والمشاركة من منابع الذات، وإنتاج الدور، لا من بداهة الموهبة ولكن من تاريخية الذات التي تستبطن مخزونها الحياتي، ولحظات عيشها مع الآخرين، أي الاستثمار في الوعي الباطن أو الذاكرة الانفعالية، كما تحدث بها.
اشتغل مخيون بالصحافة حينما كان طالب منحة في باريس، وقام بحوارات عدة مع مثقفين كبار منهم: المعماري حسن فتحي، المفكر لويس عوض والشاعر نجيب سرور وغيرهم، في الملحق الثقافي لمجلة «النهار العربي» الصادرة في باريس، وشخصية فنية كما مخيون بالضرورة تعتني بما يقدم لها من أدوار، فهو يتمنى تغيير المنظومة التي ربطت الفن الدرامي بالسوق التجاري، لأن الفن يحمل رسالة تغيير المجتمع إلى الأحسن، ويهدف الفن «إلى إمتاع الناس وتوعيتهم وتعريفهم بتاريخهم وتحليل الصراع الاجتماعي وحفظ الذاكرة الجمعية»، لهذا فإن من أولويات هذا العملاق النص، وبهذا المنظور نفهم علاقته بالعقل والتعامل مع الفضاء بعناصره، وضمن منظومة حوار وتكريس لواقع الفنان الذي ترتبط كينونته بمجتمعه وبشخصياته الفاعلة، لا كما هو حاصل اليوم، إذ أصبحت العلاقة التي تجمع الفن إلى واقعه تهريجية مرتبطة بالسطحي والضحل، مجرد كلام مخيون هو تعبير عن شخصية مركزة وقائمة في مواجهة آخر تحاول أن تثبت وجودها إزاءه، إنه تشكيل بطريقة أو بأخرى لواقع حركي تلعب فيه الشخصية أدوارها الواقعية كاملة غير منقوصة وملتزمة، كمحاولة لصناعة الشخصية الفنية التي لا ترتبك حيال الكاميرا، أو تفتعل دورها حينذاك، العملية لا تتطلب أكثر من العودة إلى الذاكرة الانفعالية.
لم يكن مجرد قول، حين ذكر أن من أولوياته النص، فنجده يوثق لتجربته في مسرح الفلاحين بكتاب يحمل عنوان «يوميات مخرج مسرحي في قرية مصرية»، وكان الهدف منه هو تسجيل «يوميات العمل»، وكان متاُثرا فيه بكتاب توفيق الحكيم: «يوميات نائب في الأرياف». ينبهنا هذا إلى عمليةٍ نادرا ما ننتبه إليها، وهي هل يمكن أن يكون ممثلا من لا يقرأ؟ إن مجرد السياحة في كتاب، كيفما كان، هي عبارة عن إنتاج خيال موازٍ للمكتوب، انطلاقا من تجربة القارئ في تخيل الأوضاع الفكرية والحدثية في نص من مكان وزمن محددين، فما بالك إذا كان القارئ مهنته الأساس هي ابتكار الخيال وتقمصه ليصبح واقعا دراميا. لا شك في أن عبد العزيز مخيون وهو يسجل يومياته متأثرا بيوميات نائب في الأرياف، يكون قد استلهم الحكيم كشخصية للحركة داخل المسرح، ثم كشخصية كاتبة، ثم بعد ذلك كشخصية يتوخى اللقاء معها ضمن تساؤلات المسعى الفني الباحث عن الجانب الدرامي في الحياة والشخوص المشاكسة فيها، وهذا ما يفتقده الفن التمثيلي اليوم، يبدو أنه لا علاقة للممثل مع المعرفة والثقافة، في الغالب، لأنه لا يجوز التعميم، وبالتالي افتقدنا فنانين أمثال عبد الله غيث، محمود المليجي، جلال الشرقاوي عبد الرحمن أبو زهرة في مصر، حسن الجندي والطيب الصديقي في المغرب ومحي الدين باشتارزي ومصطفى كاتب في الجزائر وغيرهم.
الفعل الفني مرتبط الحلقات بالمجتمع في تفاصيله الدقيقة، وهو ما منح مخيون عمقه الإنساني والوظيفي، باعتباره نموذجا إنتاجيا، فقد أتقن تحضير «الطاجين» المغربي، وأصبح يقدمه لأصدقائه، ولنا أن نتخيل مشهد الأصدقاء الضيوف على مائدة مستقدمة من مطبخ عربي آخر، تماما، تلك هي ملامح مخيون وهو يختتم اللقاء مع ياسين بإلقاء شعري لقصيدة «لا تصالح».

٭ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Salaheldin Abdelaziz Makhyoun:

    تأسرنى هذه النظره وهذا التحليل العميق الذى اتاح لى أن اقرأ نفسى واراها كما لم ارها من قبل ..فشكرا ع الحفيظ وانها لسعادة غامره أن تعارفنا سويا هنا..والشكر موصول للعزيز ياسين الذى كانت الضيافه فى بيته ولأنه بيت شاعر وقاص فكان لابد أن يخرج مافى الأعماق لأعيد قراءة نفسى من جديد ….
    ع العزيز مخيون

  2. يقول عبد الحفيظ بن جلولي:

    كل الشكر لكم أستاذنا الفنان الكبير عبد العزيز مخيون على ما أبدعت طيلة هذه السنين وعلى وعيك العميق بمأساة الأمة وعلائقها ببيئتها وتراثها والأهم من ذلك رؤيتها الآملة في المستقبل..
    ليس لي إلا أن أقول شكرا لجيل لم يحترف سوف احترامه لذاته وأمته…
    تحياتي..

إشترك في قائمتنا البريدية